«لائحة حازم صاغية»

كتب الأستاذ حازم صاغية في “الحياة” الثلثاء الماضي، فصلاً من تاريخ حزب “البعث” في لبنان، معدّداً بعض أسماء الأوائل من الأعضاء والمنتسبين. محمد عطاالله، الياس الفرزلي، عبدالمجيد الرافعي، غسان شرارة، عصام نعمان، عبدالوهاب شميطلي، حسيب عبدالجواد، مصطفى دندشلي، نقولا الفرزلي، جهاد كرم، علي جابر، موريس صقر، هشام البساط، علي الخليل، بشير الداعوق، خالد اليشرطي، إنعام الجندي، فايز قزي، جبران مجدلاني.

نقلتُ من اللائحة أسماء الذين عرفتهم شخصياً ممن جمعتني بهم مودّة وتقدير، وأحياناً ما فوق التقدير. وضمّ الأستاذ صاغية إلى الكوكبة اسم منح الصلح، “غورو” الجماعة، والمعلّم غير المنضبط، أو الملتزم شيئاً، إلا فكره وألمعيّته وإشراقة تائهة، ما بين رأس بيروت وبلاد العرب.
قبل أسابيع، كتبتُ “مقال الأربعاء” عن القبليّة التي تدمِّر الأمّة وتفكّكها من قلبها إلى أطرافها. وقلت إن كل شيء تحوّل إلى قبائل، ومنها “البعث”. وعندما قرأتُ مقال حازم، شعرتُ بندم شديد. لقد أهنتُ نفسي قبل أن أهين أصدقائي ورفاق عمري في سوريا والعراق ولبنان، ومحسن العيني في اليمن، وعلي فخرو في البحرين، وتُريم عمران في الشارقة، وحمد العيسى في الكويت، وخصوصاً، عبدالمحسن القطان في فلسطين.
ولكن هل كان هؤلاء الحزب الذي آل إليه “البعث”، أم كانوا الحلم الذي لم يبلغه؟ هل كانوا الفكر الذي أصغَت إليه السلطة البعثيّة، أم كانوا الرقيّ الذي تجنّبَته، وأحياناً لم تلتفت إليه؟ ألم يشرّد البعث كبارَه، ويقتل صلاح البيطار ويمنع دفْن ميشال عفلق في سوريا؟
أثار موت طارق عزيز جملة من الأفكار والأحزان بعدما رفضت “دولة القانون” دفنه في أرضه في العراق، وبدَل ذلك دُفن في الأردن، جناح اللجوء العراقي، منذ أن بدأت بغداد حروبها في كل اتجاه. وكان طارق عزيز حالة شديدة التناقض من تاريخ الحزب. فهو المفكّر الذي وصل إلى مدارج الحكم وبقي فيها. وهو المسيحي الكلداني الذي أصبح نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية. وهو الحدائي الليّن الذي استطاع البقاء في جمهوريّة صدام حسين. وخلال الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، وساديّات الفريقين، كانت طهران تهاجم دائماً “طارق حنا عزيز” على أساس أن المسيحي هو نقطة ضعف صدّام. وفي الستينات، كان عبدالله السلاّل، أول مشير في اليمن، يتحدّث عن مؤسّس الحزب ميشال عفلق متسائلاً “من أين جاءنا هذا الميشيل”؟ كان “البعث يومها في صراع مع الناصريّة والقوميّين العرب والحزب السوري القومي. وهي جميعاً حركات ترفع شعارات واحدة وأساليب مختلفة. غير أنها كانت الأمل في تجاوز الطائفية الكامنة أو المشرَّعة. وفيما كان طارق عزيز رئيس تحرير “الجمهورية” في العراق، كان رجا صيداوي رئيس تحرير “الثورة” في سوريا، بعدما أُقفلت صحيفة والده “النصر”، الصحيفة الليبرالية الأولى في البلاد.
وعندما تستعيد “لائحة حازم صاغية” اليوم، يبدو السنّي والشيعي والأرثوذكسي والماروني والدرزي كأنّهم حبّات لامعة في مسبحة واحدة. وقد غيّر بعض المنتسبين أسماءهم الأولى للتخفّف من الصفة، أو الرنّة، أو الطائفيةُ. فالبعث عربي أولاً ولا تنسجم معه اللكنة الأعجمية.

 

كانت بيروت، لا دمشق، أو بغداد، هي المقرّ “القومي” الفعلي للحزب. يختلف كباره في العاصمتين ويأتون إليها. وفي مقاهي الروشة ورأس بيروت، كان النقاش والجدل أعلى صوتاً وأخفض حدّة من الإطاحات العسكريّة في عاصمَتي الأمويّين والعباسيّين. وكانت نسائم المتوسّط لا تزال تُضفي على المتنازعين مسحَة من الهدوء والتروّي. بعكس دأب اللكنات الهائجة والمدافِع المنفَلتة بلا حساب.
ومن الجامعة الأميركيّة تخرّج مدنيّو الحزب الذين عادوا إلى بلدانهم بقلب بعثي وحسّ مدني: عبدالمحسن القطان إلى فلسطين، وجمال الشاعر إلى الأردن، وعلي فخرو إلى الأردن، ورجا صيداوي إلى دمشق، وسعدون حمادي إلى العراق. وأحياناً، كانت تنتظرهم سجون الرفاق: طارق عزيز أمضى سنة في سجن تدمر بعدما أمضى سنة في رئاسة تحرير “الثورة” السورية، على أساس أن التمييز القُطري لا مكان له في الحزب. لا في الأعلى ولا في الأسفل. وكان يحدث أن يقع انقلاب، أو انقلاب مضاد، فتكون القلبة أو العكس.

 
ولم تتوقّف هذه التقلّبات إلاّ مع صدّام حسين وحافظ الأسد، ولكن حلّ محلّها صراع شديد العنف بين فرعَي الحزب في العاصمتين. ولجأ عدد كبير من المؤسّسين إلى بغداد، بينهم عفلق والرئيس السابق أمين الحافظ، صاحب القوْل الشهير “نساؤنا حبّالات ولاّدات”، معبّراً عن رؤية خاصّة للحياة البشريّة وموقع النساء في العقل العربي.

 

غاب طارق حنّا عزيز فيما كانت “داعش” تسيطر على نصف العراق، وسبايا الإيزيديين يُبعن في المزاد بعد التأكّد من عذريّتهن. ولم يبقَ من الكلدان إلا الشمامسة، والأقليّات جميعها هاربة، أو على عتبة الهروب. “الوطن العربي” الذي كان يحلم به طارق حنّا عزيز، وقسطنطين زريق، وأنطون سعادة، وفارس الخوري، ومكرم عبيد، وغسان تويني، وأمين الريحاني، ومارون عبود، والياس قنصل، ووديع صيداوي، وجرجي زيدان، ونجيب العازوري، وجورج أنطونيوس، وناصيف اليازجي، ليس فقط لم يعد ممكناً، بل أصبح مستحيلاً. ليس فقط على الأقليّات العارية، بل على الأكثريّات. بدَت وفاة طارق عزيز وكأنّه رجل من القرن التاسع عشر، وليس سجيناً عراقياً منذ 12 سنة. سجين كان يعتمد على القانون الأميركي، فإذا الأميركيون في العراق يسلّمون القانون إلى محمّد أمين المهداوي، ولكن بلا ظرف وبلا فكاهات سوداء ومضاحك مجّانية، معظمها قاتل وعدَمي. آه، لن ننسى ظرَف المهداوي: اسمك. تولّدك. عمرك. حكمَت عليك المحكمة بالإعدام من إنفاذ الفوري. هذا ما تمنّاه عزيز في سجن “دولة القانون”. لم يطلب مرّة العفو، بل طلب تنفيذ الإعدام.

 

يقضي قانون السجون العربيّة أن ينطفئ المغلوبون والمقلوبون في الرطوبة والعتم. سجون صدّام حسين لم تكن أقلّ رطوبة وأكثر نوراً. كان ياسر عرفات يروي أن إحدى العائلات السياسية الكبرى سعَت لديه للتوسّط من أجل سجينها، وهو حزبي سابق. وسُمح له بعد فترة بزيارة السجين، فما كان منه إلا أن عاد إلى العائلة قائلاً: الأفضل ألاّ تروه وألاّ يراكم. دعوه يموت في حطامه وعظامه.
لم يكن في إمكان “لائحة حازم صاغية” أن تفعل شيئاً أكثر من تقبّل الوقائع. منفيّون ومشرّدون ومحكومون بالإعدام. حزب نشأت فكرته في ساحة السوربون، عند تمثال أوغست كونت مبتدع الإيثار، أو الغيريّة، أو حبّ الآخر. فلما حملها ميشال عفلق وصلاح البيطار إلى العالم العربي، تبيّن أن كل آخر عدو لا مكان له في أي مكان. تخطب عن الغيريّة وتَلغي الغير. لا مكان لأحد سواك.

 
عندما وصل باراك أوباما إلى رئاسة أميركا، خاطب قارته الأفريقيّة قائلاً: أنتم لستم في حاجة إلى رجل قوي. أنتم في حاجة إلى مؤسّسات قوية، ومجتمع قوي، وشعور وطني قوي ومتماسك. أخلاقي قوي. لكن العالم العربي، عالم الفرد. وأوغوست كونت مرجّف ومجدّف ومتخاذل وانحرافي. لذلك، أخفقت فكرة الحزب في العالم العربي. لم يبقَ أحد، لا في اليسار ولا في اليمين. الحزب يمثّل الدولة، مثل الوطن، وُضع في خدمة الفرد، في خدمة الرئيس. مصر، اليوم، بلا حزب، لأن رئيسها لم يشكّل حزبه بعد. والأحزاب الأخرى مفتّتة مثل بلدانها. ولم يعرض أي حزب عربي على شعبه حزباً آخر، أو يقبل بوجود حزب معارض. لذلك، زالت تلك التجارب التي بدَت، في مرحلة من المراحل، حلماً حقيقياً للتعبير عن تطلّعات الناس وإراداتها. تداوَلت الأحزاب الحاكمة في مصر، السلطة والسجون. وتناوب القوميون العرب النهضة والسقوط. وتبادل بعثا العراق وسوريا اتهامات الخيانة والانحراف.
وبقيت من جماليّات المرحلة ذكريات مقاهي بيروت: منفيّون يحلمون بمجرّد العودة إلى أرضهم في “القطر” من دون المرور في السجن. يتحلّقون حول مُنح الصلح أو أكرم الحوراني أو سامي الجندي، ويتحدّثون عن أشياء يعرفون أنها لن تحدث. “يقظة العرب” لن تتعدّى عنوان الكتاب الذي استوحاه جورج أنطونيوس من قصيدة إبرهيم اليازجي: تنبّهوا واستيقظوا أيها العرب!
كل شيء يكاد يبدو مستحيلاً الآن. الاستفاقة واليقظة والغيرية والوحدة وأحلام البعث الأولى والدعوات الحزبية وكل شيء. عشنا في زمن “الرجل القوي” The Strong Man نحن وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية. وانتقل الآخرون، حتى أندونيسيا والصين، إلى مرحلة المؤسسات القوية. وهذه مرحلة لن نعرفها. لقد تفكّكت البلدان على أيدي الأقوياء.

(النهار)

السابق
وين (تصريخك)؟
التالي
الجيش : قتيلان في استهداف مجموعة ارهابية متسللة من جرود عرسال