رمضان النبطية: الحداثة غيّرتنا

بين زمنين يعبر شهر رمضان المبارك في حي السراي، الاعتق والاقدم في مدينة النبطية، زمن الحداثة الذي سرق الشهر المبارك من قيمته، وزمن الماضي الذي يتسلل الى الواجهة، عبر “خبريات” من عايشوه.

في حي السراي تغيب بهجة رمضان، فلا زينة تحضر، ولا حكواتيا يأتي، حتى ذاك الصوت ” يا حجة تعي خدي صحن كبة حيلة” غاب، وبقي الحي مسكونا بذكريات أهله، وأمنيتهم بعودة عز رمضان. “لم يبق من شهر رمضان الا اسمه، وغلاء يقض مضاجع الفقراء وشاشات صماء يتسمر حولها الاهالي”.

في احد دكاكين الحي العتيق يجلس امير قدورة يتذكر بعضاً من ذكريات رمضان، لعل ابرزها الحكواتي وحلوى الشعيرية بالسكر والقضامى، يقول “كنا نتحلق حول الحكواتي، كان يحكي لنا قصة الزير سالم والشاطر حسن، غابت الشخصية اليوم، ومعها غاب واحد من أبرز موروثاته التي كان يعوّل عليها في بناء جيل مثقف” ، مردفا “رمضان زمان كان اجمل، كان أهل الحي يجتمعون في سهرياته وكانت الزردة كناية عن سميد ومياه وسكر يرش فوقها صبغة حمراء والرشتاية بحليب والجلاب رفيقة السهرة وخبريات الاهالي التي تستمر حتى السحور”.

في خمسينات القرن الماضي، كان حي السراي مفعما بالحياة الرمضانية، داخله تصدح اصوات مدقات اللحمة على البلاطة، واصوات الباعة ترندح من كل زواياه، حينها كان لـ”رمضان” شهر البركة نكهة خاصة، وطعم مميز” وفق الاهالي، لا زالت ذكرياته راسخة في ذاكرة علي راضي الحلونجي العتيق. يعترف راضي علانية ان “شهر رمضان بات شهر عد ايام لا اكثر، لم يعد له نكهته السابقة”، برأيه “العصرنة الحديثة سرقت الشهر من بركاته، وتحولت الموائد الى فلش اصناف عديدة من المأكولات عكس السابق”.

يعتبر حي السراي صورة مصغرة عن رمضان مدينة النبطية، ويشكل مفتاح العبور، الى موروثات قديمة كانت ترافق الشهر الفضيل من الحكواتي الى المسحراتي والقطايف والمشاطيح، ومعها أكلات كانت تزين المائدة انذاك من الرشتاية وكبلة الحيلة والحمام المشوي، إذ كان الحي يشتهر بتربية الحمام، الى سميد باللحم وغيرها، “فُقدت كل الموروثات الجميلة” وفق الحاجة زينب حسيكة التي تعتبر أن “قيمة المحبة الاصيلة اندثرت”، سائلةً: “أين الرشتاية بالحليب والشعير بالسكر والجلاب الذي نعده يدويا؟، كله ذهب مع التطور الذي اخذ منَا بساطة العيش، حتى بتنا نشعر أننا معلبون في صندوق” مردفة “هيديك الإيام أحسن، لم نكن نسمع لا حرب ولا ضرب، كنّا نعمل في التبغ والزراعة وبرغم التعب كان شهر رمضان مفعم بالحياة .

في الحي تسمع حديثاً عن سهريات رمضان اليومية، عن سياسة الإلفة التي كانت سيدة الحياة انذاك. “تبدلت المعايير لم يعد من سهريات لمْ شمل العائلات”، يقول أبو إبراهيم “كانت السهريات تلتئم كل يوم في منزل وكانت الغزلة والقضامي رفيقة سهرات رمضان ” مردفاُ “كنا نشعر بمتعة وفرحة برؤية الجيران يتبادلون الاكل اليومي عبر طاقة المنزل الصغيرة، والاحاديث، ويتحلق الاولاد حول الحكواتي، وهو شيخ كبير ليستمعوا الى القصص وخبرياته المضحكة، الذي بات موروث شعبي نادر، “وان كان لا زال يحضر في امسيات الجوامع”، لافتا ” كان للشهر نكهة خاصة، الكل ينتظره، يزين داره، كانت العونة سمته لم يكن هناك من فقير بالشهر، اليوم كثر الفقراء وقلت الروابط الرمضانية”.

النبطية

وحده المسحراتي لازال حاضرا. ابو حسين قرر ان يواظب على عمله كمسحراتي، على سيارته طبع صورته وعلق مذياعاً ووضع طبلة داخله، يجوب الاحياء مطلقا العنان لصوته “يا نايم وحد الدايم، يا مؤمن قوم عالسحور” يخبرنا انه “يقوم بارقى انواع الطقوس، المسحر يجب ان يعود كما كل شيء قديم”، ربما يتفاجأ البعض ان المسحر لازال حاضرا، وبمنظور أبو حسين “المسحراتي يجب ان يعيش بشخصيته الرمضانية”، وهو الذي تعلم ان “لا قيمة للشهر الا بالمسحراتي” مردفا في نهاية الجولة “أتوقف عند فرق اللوز لأتناول مشطاح رمضان وفرن اللوز من أقدم الافران التي تعد مشاطيح رمضان الشهيرة وتعتبر موروثا عتيقاً يحفظ جزء من ذكريات رمضان حي السراي”..

عام 1938 دخلت القطايف الى مدينة النبطية مع أبو شقرا الذي فتح محله في حي السراي ومنذ ذلك الحين تعد من أبزر حلويات رمضان واطلق عليها صناعة ‘الماس’ لما تدره من ارباح، وان كانت لا زالت الارخص على الاطلاق. يخبرنا ابو شقرا كيف تطورت المهنة من العمل اليدوي الى الالة لكي تواكب العصر، بيد أن أبو شقرا الابن يقول ” أن القطايف أشهر حلويات رمضان ويتهافت عليها الفقير والغني على السواء ولها مكانة خاصة في نفوس اهل النبطية”.

الف حكاية تسمعها عن شهر رمضان، عن شهر كانت فيه الحياة واحدة، وكان الحكواتي يصوغ قصص المجتمع، فتتحول بقعة تغيير في واقع يحتاج الى حكواتي، يعيد برمجة الشهر لعلّه يستعيد بعضا من موروثاته.

(مختار)

السابق
إلى المشنوق: الطائفية تزيد الإرهاب
التالي
الجيش: انهاء التحقق من 8 نقاط جديدة ضمن تعليم الخط الازرق