نهاية «داعش» حتمية لكنها بعيدة جداً

كأن ما بين النهرين، لم يكن عراقاً، وكأنه لن يكون.. وكأن دولة العروبة لم تكن سوريا، وكأنها لن تكون.. وكأن إرث سبأ لم يكن يمناً، وكأنه لن يكون.. وكأن هذا المشرق العربي لم يكن الشرق الأوسط، ولن يكون.

«الدولة الإسلامية في العراق والشام»، التي لم تكن يوماً، ولم تراود أحداً ككابوس ممكن، باتت «الدولة الإقليمية العظمى» إلى أجل غير مسمّى. هي دولة شاسعة ومترامية الأطراف، تستمد شرعيتها من إرث سلفي خاص، بمفاهيم جهادية غير مسبوقة، لا تؤمن بغير إقامة الدولة الإسلامية، ذات السحر الفعَّال في نفوس المؤمنين والملتزمين، وتكفِّر الحكومات العربية كافة، تحديداً تلك التي لا تطبق الشريعة الإسلامية. وهي تعتمد مبدأ الولاء والبراء، وتؤمن بالقتال كاستراتيجيا للتغيير، وبالمواجهة مع الولايات المتحدة والغرب (تغيب إسرائيل كلياً)، وبالعقائد الإلهية المستمدة من الأدبيات السلفية التاريخية المعروفة، وترفض الطريق الديموقراطية. وهي تقسم العالم إلى فسطاطين على نهج «القاعدة»، كل من لا يشبهنا ولا يؤيدنا ولا يوالينا ولا يدفع الجزية، هو عدو لنا. لذا، يأتي تكفير الجماعات الإسلامية الأخرى، كـ «الإخوان المسلمين»، في مقدمة اهتماماتهم عند إجراء الفرز، ويخطِّئون «الأخوان» وكل من لا يتبنى نهج القتال بالسلاح.

تشكل هذه المنطلقات الأساس النظري العقدي لكل من «داعش» و «النصرة». ومحاولات تبرئة «النصرة» من «داعش»، تزوير وافتراء. فما تعتقده «القاعدة» وما تقوم عليه سياساتها وعملياتها، هو نفسه ما تتمسك به «داعش» و «النصرة». إن المساحة الإيديولوجية هي الأرضية الموحدة التي تقف عليها هذه التنظيمات الجهادية.

قوة «داعش» ومعها «النصرة» كفرع لـ «القاعدة» في سوريا، لا تعود إلى قوة الإيمان وشدة التمسك بالمعتقد الديني السلفي. قوتها متأتية من التزامها العملي والدقيق، بل الحرفي، بآليات وفقهيات، رسمت الطريق وحددت الوسائل لتحقيق مشروع إقامة الدولة الإسلامية، أو الخلافة المنجزة، تأسيساً لشرعية دينية وامتثالاً لقوانين «كونية إنسانية».

اختار أبو مصعب الزرقاوي، الذي امتاز عن أقرانه في «القاعدة»، بأنه كان ينحو منحى عملياً صارماً. بنى شبكته على قاعدة «إدارة التوحش» وإنجاز التمكين، كما جاءت في كتاب أبو بكر ناجي. أما عقيدة الزرقاوي القتالية فقد استمدها من أبي عبد الله المهاجر. ويشير مدير وحدة الدراسات السياسية في «مركز الدراسات الإستراتيجية» في الجامعة الأردنية، محمد أبو رمان، إلى تبني الزرقاوي نهج القتال، وفق «أولوية قتال العدو القريب، المتمثل في المرتدين من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة»، إلى جانب تكفير الشيعة عامة. أما «أغلبية خيارات الزرقاوي الفقهية المتشددة والخاصة بالعمليات الانتحارية، ومسألة التترّس، وعمليات الاختطاف والاغتيال وقطع الرؤوس وتكتيكات العنف والرعب، كان قد تلقاها عن المهاجر». (مجلة الدراسات الفلسطينية ـ شتاء 2015).

ولضمان نجاح «إدارة التوحش»، لا بد من تقديم «النموذج الإسلامي» في الحكم. (وهو نموذج لا علاقة له بالعصر ولا بالبيئة السابقة ولا بالإنجازات الإنسانية) يفترض النموذج إنجاز ما يلي عملياً: «نشر الأمن الداخلي، توفير الطعام والعلاج، التأمين من غارات الأعداء، إقامة القضاء الشرعي بين الناس، رفع المستوى الإيماني، رفع الكفاءة القتالية، إنشاء المجتمع المقاتل، بث العيون (استخبارات) تأليف قلوب أهل الدنيا بشيء من المال والدنيا، ردع المنافقين، الإغارة على الأعداء وغنم أموالهم إلخ».

يحدث ذلك في بيئة عراقية مأزومة، تفوقت فيها النزعات المذهبية والإثنية، بعد تفاقم نزاعات الهوية الدامية والاستئصالية. لا وطنية رائجة أو فاعلة في العراق. الأرض مكتظة بالثقل الشيعي، المحلي والإقليمي، وملّبدة بالغضب السني وانتشار شكوى المظلومية. وهي بيئة تتفجر من داخلها وتلجأ مكوناتها إلى الأحضان الإيمانية الدافئة التي تشكل قواعد انتحار ومنصات انطلاق لأفعال مذهبية.

في هذه البيئة، ينتشر «داعش» وينتصر. بعض السنة ليسوا معه، ولكنهم ليسوا ضده. حتى في لبنان، لا إدانات واضحة وحاسمة من قيادات سنية لما يرتكبه «داعش» و «النصرة». القيادات السنية اللبنانية، ضد «داعش» في السر. علناً، لا تتجرأ هذه القيادات على الإفصاح. أحدها، من قادة طرابلس، قال تعقيباً عما يمكن أن يحدث لو أفصح، أنه، لا هو ولا سواه من السياسيين، بمقدوره العودة إلى طرابلس. البيئة السنية تعيش على أولوية مناوأة التيارات والأحزاب الشيعية، في المشرق العربي والخليج.

التمايزات بين «داعش» والبيئة السنية، لا تظهر راهناً. الأنبار نموذجاً. دخل «داعش» الأنبار، فوالته الجماهير. وما يحصل في سوريا، ليس نشازاً. «إدارة الدماء» هي القاسم المشترك بين المتحاربين. سيطرة «داعش» و»النصرة» والأسماء المستعارة من قوى إسلامية مسلحة، تسبح في مياه وافرة، فيما تتقلص الجغرافيا التي يسيطر عليها النظام، بعد تعرضه لوهن وضعف شديدين، أمليا عليه التراجع للدفاع عن نقاء البيئة الطائفية السياسية، وما تبقى من جغرافيا مختلطة.

الأرض كريمة مع التيارات السلفية الجهادية. والزحف الذي تقوده الحركات المسلحة، أنجزت شعار الدولة الإسلامية، وحضنتها بقوة لم تقو عليها جيوش نظامية، ولا أحلاف دولية، ولا يبدو في الأفق إمكان لهزيمتها.

فرغت الساحة التي «يزدهر» فيها «داعش» (ومن يشبهه) من قوى ديموقراطية، يسارية، قومية، ليبرالبية ودولتية. الجيوش أثبتت عجزها أمام هجمات «داعش» و «النصرة». «الحشود الشعبية» مصبوغة بالمذهبية، ما يؤجج الصراع ويفتحه باتجاه الماضي ويغلقه باتجاه المستقبل. وفي هذا الصراع، لا غلبة لأحد على أحد. الأنظمة السياسية لا تقنع مؤيديها، فكيف تكون مرجعاً؟ القوى الخارجية تقطف الثمار أو تنتظر بوار مواسمها.

في هذا المشهد، تظهر «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، إنها المشروع الوحيد الذي يتمتع بجدارة البقاء، مع ما يترتب عن ذلك من مجازر ومذابح واجتياحات وفظاعات. هي جزء من العقيدة وركن من أركان الجهاد. «داعش»، لا يقترب من نهايته. قد تكون نهايته مؤجلة، إلى ما بعد نهاية العراق وسوريا واليمن وليبيا و… و…
نهاية «داعش» حتمية… لكنها بعيدة قليلاً، أو بعيدة جداً.

(السفير)

السابق
مَن يدفع السنّة إلى أحضان «داعش»؟
التالي
«داعش» يصلب طفلين في تهمة «الإفطار» في رمضان