لبنان: الشيعة حين دعوا إلى دولة لا دين لها!

لم تُخاطر نُخب السنّة في لبنان بالاعتراف بنهائية الكيان اللبناني إلا في الساعات المتواكبة مع اتفاق الطائف. قبل ذلك ركب السنّة كافة الأمواج التي كانت تنشطُ خارج الحدود مبشّرة بوحدة العرب بعد سقوط الخلافة العثمانية.

مارس الساسةُ السنّة برتابة ومناكفة أدواراً داخل مؤسسات البلد المستحدثة منذ الاستقلال عام 1943. قاد رياض الصلح، أول رئيس للحكومة بعد الاستقلال، السنّة للعب دور رائد في إدارة الدولة الفتية، وجهد لجرّ الطائفة للاقتناع بحدود “لبنان الكبير”. وربما أن إيمان الرجل بأهمية البيت اللبناني رشحه لدفع ضريبة الدم على يدّ من لم يرتضوا بالحدود وراحوا يبحثون عن أمة وراءها.

في تجربة لبنان الاستقلال ما قبل اتفاق الطائف، همّش العامة السنّة علاقتهم الوجودية بلبنان وجعلوها متّصلة بالتيارات العروبية خارج الحدود. التحقوا بالناصرية دون تردد، وناصروا الحراك الجزائري ما قبل وما بعد التحرير، وواكبوا الحراك البعثي في دمشق وبغداد، ووقفوا مؤيدين داعمين وملتحقين بصفوف الثورة الفلسطينية. ضمن ذلك الإطار عملَ زعماؤهم التقليديون على انجاح معادلة ترضي الثوريين بقيادة جمال عبدالناصر ولا تغضب التقليديين بقيادة الرياض. كان في تلك المعادلة خليطٌ من قناعة ونفاق بجرعٍ مدوّزنة قبلها الثوريون كما التقليديون.

من الصعب أن نجزمَ في ما إذا كانت الحريرية هي التي جرّت السنّة حديثاً إلى الاستسلام لمفهوم “لبنان أولاً”، أو أن اللحظة التي ظهر فيها رفيق الحريري كانت المؤاتية لتوقيع السنّة عقد اللبننة الذي يلتقي، في الشكل والمضمون، مع ما كانت تبشّر به المارونية السياسية منذ الاستقلال. في تلك اللحظة تقاطع أفول الناصرية وتراجع العرفاتية وخفوت العروبية التي تتنفسها بغداد، مع تفاقم الصراع مع نظام دمشق، الوكيل الحصري المحتكر للعروبة مفهوماً وحزباً وتياراً ونظام حكم.

سبق الشيعة السنّة بعقود في التطلع لللبننة فلسفةَ عيش ووجود. ولئن مارست القيادات الشيعية التقليدية تمارين الحكم متظللة بالمارونية السياسية نسبياً، خرجت أسماءٌ دينية كبرى، تقدّمها الامام السيّد موسى الصدر وبعده الشيخ محمد مهدي شمس الدين تدعوا الشيعة جهاراً للالتحاق بالمركب اللبناني، فقط، ودون غيره. ولا شك أن الأمرَ عُدّ حينها تحدياً للايديولوجيات السائدة في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، والتي لطالما رأت في تلك الطروحات رجعية وانعزالية. حتى أن العروبيين السنّة نظروا إلى تلك الرؤى، بصفتها عزفٌ يصبّ في مياه خصومهم “الانعزاليين”.

أسست “اللبننة” الشيعية لقواعد الصدام مع الوجود الفلسطيني في لبنان، وربما أنها وقفت وراء الحرب الشيعية الشيعية التي اندلعت بين حركة أمل وحزب الله في ثمانينات القرن الماضي، أي بين الرؤية اللبنانية والإيرانية للحضور الشيعي في لبنان، علماً أن تلك الحرب عبّرت، في جانبها الأكبر، عن تنافس بين دمشق وطهران للسيطرة على القرار الشيعي في البلد.

في لبّ الجدل الشيعي الداخلي ظهر السيد موسى الصدر ليعمل على هوية شيعية “تنتشل” الشيعة من هامشية مزعومة ضمن المشهد السياسي اللبناني، ومن يسارية طموحة تنهلُ من المخزون الشيعي لصالح مصالح ومشاريع خارج الحدود.

يذّكر الأكاديمي اللبناني الدكتور سعود المولى أن السيّد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين هما صاحبا مقولة “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”، التي أطلقاها في وثيقة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى (1977). وذهب شمس الدين أبعد من ذلك حين دعا إلى قيام “دولة لا دين لها” بموازاة دعوة حزب الله آنذاك (1980-1988) لإقامة دولة إسلامية في لبنان.

دفع السيد محمد مهدي شمس الدين ثمن مواقفه هذه. يقول المولى أن الرجل لم يتراجع عن طرحه لمشروع الوطن والدولة، وهو الذي “شنّت عليه وسائل إعلام حزب الله أقسى الحملات الظالمة (1988 ـ 1998) واتّهمته بشتّى الاتهامات، بعد أن ضُرِبَ منزله في الضاحية بالصواريخ وجرى تهجيره وتشريده بقرار حزبي إلهي”.

قبل وفاته، قال شمس الدين، بما يشبه النبوءة النهائية، إن لبنان بلدٌ نهائي حتى لو تحققت افتراضا تلك الوحدة العربية المتوخاة: “ولو تكوّنت جمهوريّة عربيّة من طنجة إلى عدن، سيكون لبنان الدولة العربيّة الثانية، سيبقى دولة عربيّة أخرى..”. بالنقيض من ذلك، تمكّن حزب الله من انتزاع الشيعة من مشوارهم المنطقي باتجاه الدولة اللبنانية، وتمكّن من خطف الطائفة من العربات العروبية اليسارية الثورية وسوّقهم حالياً في عربات الدفاع عن نظاميّ الولي الفقيه في إيران ونظام العائلة – الطائفة في سوريا.

في سياق الأمر الشيعي يبدو حدثُ حزب الله، على جسارته، تفصيلاً في تاريخ الشيعة اللبنانيين. وفيما يعلو الصوت من حارة حريك معظّماً اللحظة الشيعية التي تقودها طهران في ايران والعراق والبحرين واليمن ولبنان…إلخ، تخرجُ من قلب الطائفة أصوات، على أقليتها وهامش سطوتها، تبدو، ليس فقط الأكثر شجاعة، بل الاكثر انسجاماً مع تاريخ الشيعة الحديث، والأكثر تلاؤماً مع اطروحات الصدر وشمس الدين. وهي (أي تلك الأصوات) باستنادها على ليبرالية يقودها رموزٌ كان لها باع في التنظير للبنان مدنيّ حديث، وباعتمادها على وجوه دينية من أئمة ورجال فقه تنهلُ من تراث الشيعة سبيلاً لمصالحة شيعة الحزب مع قواعد التاريخ وأبجديات قيام الدول.

لا يجد المسيحيون في لبنان بديلاً عن الدولة يحتمون تحت ظلالها. دافع المسيحيون بالعنف عن الفكرة اللبنانية وإرتأوا بعد زوال الحرب الأهلية انتظار طوائف لبنان للانضمام إلى مسعاهم. في ذلك لا تبدو العونية، على شعبيتها الشعبوية، إلا نشازاً، يؤكد قاعدة، أو بالأحرى حتمية لا خيار غيرها، يلتصق المسيحيون من خلالها بالدولة خلاصا.

التحق السنّة منذ ظهور رفيق الحريري بفكرة لبنان الوطن النهائي وأكدوا ذلك وما زالوا يؤكدون منذ مقتله. لا يبدو أن التحاق السنّة بالفكرة اللبنانية للكيان نتاج ردّ فعل انفعالي، بل ثمرة تجربة غنية مركّزة قادتهم إلى هذا المآل. وربما من حقّ المسيحيين أن يقلقوا من مزاج سنّي يحتمل تبدله بتبدل الأهواء والأنواء في المنطقة، بيد أن البيت السنّي لم يعد ميدان تسويق طبيعي لمشاريع وأحلام مغرقة في عدم طبيعيتها.

يبقى أن الشيعة يناضلون للدفاع عن الدولة فكرا وممارسة وطبيعة عيش. حزب الله يريدها “دولة عادلة قوية” تمر إجبارياً في طريق طويل معقّد ينطلق من طهران ليعرج على شيعة الكوّن مروراَ على نظام الأسد في دمشق، بينما ينشدُ الشيعة المعارضون (شيعة السفارة على حدّ اتهامات السيّد حسن نصرالله)، الممثلون للامتداد التاريخي الشيعي منذ ما قبل تفصيل حزب الله، انتهاج طريق قصير سريع يمر مباشرة من البيت الشيعي إلى البيت اللبناني الكبير.

(ميدل إيست أونلاين)

السابق
ملف حزب الله (8): التعبئة التربويّة لجذب الطلاب والهيمنة على الجامعات‎
التالي
داوي حروق الشمس طبيعياً بهذه الطرق