الخطاب المذهبي في أعلى مراحله

يشكل لبنان حالة نموذجية في الاتهامات التي يوجهها محور الممانعة الى خصومه، وقد باتت محصورة بكونها تكفيرية او على الأقل تدعم التكفيريين وتبرر أعمالهم. شكلت خطابات الأمين العام لحزب الله النموذج الفاقع في طبيعة الاتهامات والتهديدات للبلد ككل ووصم غير المؤيد لسياسة الحزب بالعمالة والخيانة والغباء، وهدر الدم تطبيقاً لهذه الاتهامات. وضعت خطابات نصر الله البلد على شفير الحرب الأهلية المتجددة، بحيث لا تحتاج الا الى حادث بسيط لتنفجر الغرائز والأحقاد ويرتفع سعار الانتقام والثأر على غرار ما شهدته إحدى المدن البقاعية عندما حصل خلاف فردي بين رجلين من مذهبين مختلفين، فتصاعدت دعوة التجييش العشائري والقبلي للانتقام.
لسنوات خلت كان حزب الله ينطق بلازمة تخوينية وعمالة للعدو الإسرائيلي، ويتهم كل من لا يواليه بالولاء لإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. بعد انخراطه في الحرب الأهلية السورية، باتت لازمة الاتهام التكفيري تطلق على كل من ينتقد سياسة الحزب، وتغير الخطاب من اعتبار اسرائيل العدو الأول، الى التنظيمات المتطرفة، حتى ان السيد نصر الله اعتبر ان النكبة القادمة على الأمة العربية أكبر بما لا يقاس من نكبة فلسطين. واذا كانت اتهامات التكفير للحزب تكاد تطاول جميع الطوائف، الإسلامية منها والمسيحية، الا ان خطابات الحزب شهدت تصعيداً غير مسبوق ضد من لا يوالي الحزب من الطائفة الشيعية، فوصف المعارضين بأنهم «شيعة السفارة الاميركية»، وهم عملاء وخونة وأغبياء وفق توصيفات الأمين العام. يحمل هذا التوصيف تهديداً عملياً بالتصفية الجسدية لكل خائن من أبناء الطائفة، خصوصاً العاملين في مجال الثقافة والإعلام.
لماذا انتقل الأمين العام الى مثل هذا التصعيد ضد معارضيه من الطائفة الشيعية؟ لسنوات مضت، لم يكن الحزب يعير أي اهتمام لخطابات القوى المعارضة من الطائفة، بل على العكس كان يفتخر بأنه ديموقراطي ويقبل النقد والرأي الآخر. لم يتغير شيء في خطاب المعارضين، ولا يبدو ان كتاباتهم باتت تشكل خطراً على الحزب وموقعه ضمن الطائفة، فهم ما زالوا على الهامش، كتاباتهم مقروءة ضمن نخب محددة. فلماذا إذاً هذا الاستنفار ضدهم؟ في الحقيقة، ان ما أثار السيد وقيادات حزبه هو ما بدأ يتنامى الى مسمعهم عن تذمر ما في أوساط الطائفة مترافقة مع أسئلة عن مصير أبنائهم الذين يعودون قتلى من الحرب العبثية غير المعروفة النهاية في سورية. صحيح ان هذه التذمرات لم تصل بعد الى تكوين حالة شعبية ضمن الطائفة الشيعية، لكن مجرد بروزها، ولو في شكل خفي، شكل للحزب جرس انذار من تراكم الظاهرة شيئاً فشيئاً لتتحول لاحقاً الى حالة معارضة حقيقية.
لم يعر الحزب يوماً اي أهمية لمعارضة سائر الطوائف له، سواء في حربه ضد الاحتلال الاسرائيلي ام في قتاله مع النظام السوري. لكن المواقف المتشنجة التي تصدر عنه اليوم عائدة الى خوفه من بيئته. فالحزب منذ قيامه لا يرى موقعه في الوطن او مع المكونات اللبنانية، بل يحدد موقعه ضمن الطائفة الشيعية، ويسعى دائماً الى استنفارها في كل تطور سياسي. ان اهتزاز موقعه ضمن الطائفة هو بمثابة انتحار لما مثله وما يمثله. كما جرت الإشارة ليس الحزب او الطائفة امام مثل هذا الخطر بعد، لكن التوجس يصدر عن عوامل موضوعية تتصل بالوحول التي غرق فيها الحزب في الساحة السورية وما ستتركه من أخطار على أبناء الطائفة نفسها. فبدلاً من مواجهة الحقيقة، هرب الحزب الى اعتبار بعض المعارضين له تهديداً للحزب وفكره وسياسته.
لا يقتصر خطاب التصعيد المذهبي للحزب على بعض المثقفين الشيعة، فالأخطر هو التعبئة العامة التي أطلقها لتنظيم العشائر والعائلات تمهيداً للزحف على مدينة عرسال في وصفها مقلع الكفر والتكفيريين. إنها دعوة صريحة لاندلاع حرب أهلية مذهبية لن تنحصر في منطقة البقاع، بل ستطاول المناطق اللبنانية الأخرى. فهل يعي الحزب ما تجني يداه الآن؟

(الحياة)

 

السابق
حالة حرب بالضاحية: رصاص على مدار الساعة والأهالي مستاؤون
التالي
معلومات صيدا اوقفت مطلوباً شارك في اشكال تعمير عين الحلوة