رجوع الجنرال الى صباه

نديم قطيش

يصيغ الجنرال ميشال عون معركته الاخيرة بمفردات وجودية. المعركة ليست سياسية كما يقدمها. لا رابحون وخاسرون هنا بل ناجون او فانون في لعبة الفرصة الوحيدة. هو لا يواجه خصوماً في السياسة بل قوى “غاشمة” عازمة على “تهجير المسيحيين” (لاحظوا ال التعريف)، الذين يمثلهم هو في الحكم. ينسى أنه وقع قبل أيام ورقة اعلان نوايا مع رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، وانه منحه في أكثر من تصريح صفة القوة المسيحية الثانية، بعد ان كان يكابر حتى بالاعتراف به منافساً في انتخابات الرئاسة. يقفز فوق المسيحيين المستقلين، وبينهم النائب والوزير بطرس حرب، الذي هزم صهره الوزير جبران باسيل في الانتخابات البرلمانية مرتين، أولى بقانون “غازي كنعان” عام ٢٠٠٥، وثانية بقانون اتفاق الدوحة. اي القانون “التصحيحي” الذي عاد به الجنرال من قطر مبشراً باستعادة حقوق المسيحيين، ونظَّر له باسيل، بأن الطائف أخذ والدوحة ردت.

 

لا يرى المسيحيين المنضوين في احزاب غير مسيحية. بل لا يرى المسيحيين من حلفائه، كسليمان فرنجية، الا بصفتهم “تحصيل حاصل”، لا مكان لهم خارج عباءته.

 

هو المسيحيين، ما لم يكن هو المسيحية نفسها. وبالتالي هي معركة وجود، يخوضها في لحظة ازدهار معارك الوجود في لبنان. سبقه اليها حزب الله، الذي بات يستسهل مؤخراً تسمية معاركه بالمعارك الوجودية، التي لا تعدو كونها احتلالاً لتلال سورية معزولة يصعب حفظ أسمائها. كيف تخاض معارك الوجود بهذا اليسر؟ وكيف يتهاوى الخطر الوجودي بهذه السرعة ان كان وجودياً حقاً؟

 

بل كيف تخاض معارك الوجود بهذه الكاريكاتورية التي يمثلها سلوك عون الان أفضل تمثيل؟ يستعيد الجنرال الموقع الأحب الى قلبه، والمنصة الأكثر هولاً على مستقبل لبنان. يطل من شرفة في الرابية كما أطل يوماً من إحدى شرفات القصر الرئاسي في بعبدا. لكنه يطل على نسخة بائسة من ماضيه.”الجماهير” بلا حيوية تذكر. صفتها التمثيلية حزبية، بالمعنى الضيق للكلمة، على عكس جماهير بعبدا في ذلك الزمن، حين استطاع خطاب السيادة ان يستقطب مسلمين لا سيما من الطائفة السنية. ذلك الزمن يا جنرال، الذي سقط فيه النائب ناظم القادري، وانت العالم انه شهيد “عونية مبكرة” بقدر ما هو شهيد “اللقاء الاسلامي”، احد اقوى التعبيرات السيادية اللبنانية عند المسلمين.

 

فأين ساحة بعبدا من ساحة الرابية اليوم؟

يومذاك لم يقرأ الجنرال جيداً متغيرات الإقليم. لم يفهم معنى حرب الخليج ومشاركة سوريا فيها الى جانب الولايات المتحدة لتحرير الكويت. أعماه النهم الشخصي للرئاسة عن تفاصيل المناخ المنتج لها، قافزاً فوق حقيقة ان الرئاسة في لبنان، هي ظرف قبل ان تكون استحقاقاً. رغم ذلك كان لبعبدا معناها الأكثر من شخصي، والأبعد من أنانية الجنرال. كان فيها ذلك البعد الحقيقي لمعركة كرامة لبنانية، والجنرال جزءٌ منها، بقدر ما كان ركوبه عليها جزء من إحباطها.

 

عودة الجنرال الى ذلك الزمن، هو عودة الى كل مساوئه من دون اي من حسناته. عودة الى استراتيجية الارض المحروقة، بنتائج محسومة من الان، وبلا ضمانات جدية ان تبقى بلاد ليبقى مسيحيون فيها. واذ يعطي حزب الله للجنرال من طرف اللسان حلاوة، ويدوزن له سقف المعركة، كما حصل في فرملة استعداداته للإطاحة بالحكومة، فليس لأنهم اكثر وعياً منه او اقل انقلابية على الطائف من خطاب الرابية. بل لأنهم يختلفون معه في توقيت الانقلاب وليس في خيار اللجوء اليه.

عون بعبدا، اطاح بالبلاد راكباً موجة قضية حق، مهما تباينت التقييمات والقراءات لخيارات تلك المرحلة. عون الرابية يستعد للإطاحة بالبلاد راكباً موجة عنجهية صرفة وعناد ينتحل صفة معركة وجودية غير قائمة الا في مخيلته.

عون الرابية مطية، وحسب.

(المدن)

السابق
بالصور: براد بيت وأنجيلينا جولي يسافران في «الدرجة الاقتصادية»
التالي
طريقة جديدة لتبييض الأسنان في 3 دقائق فقط