بين الدولة والمجتمعات البدائية

الدول الحديثة المبتنية على مفهوم “سيادة القانون”، ليست كمالاً أو رفاهية، بل هي تمثل صيرورة تطور المجتمع البشري، وتحوله من حالة “البدائية” إلى “المدنية”، كون “المجتمعات البدائية، مجتمعات بدون دولة”، كما يرى بيار كلاستر، فهي “مجتمعات خاصة، ليست كاملة، وليست إطلاقاً مجتمعات حقيقية، لأنها تفتقد الأمن والدولة”. مضيفاً “إننا لا يمكن أن نفكر في المجتمع دون الدولة، فالدولة هي قدر كل مجتمع”. كلاستر، العالم الفرنسي الذي اشتغل بعلم “الإناسة”، يعتقد أن الدولة هي ما يمكنها أن تهذب “توحش” الإنسان الأول.

 

كون هذا الإنسان عندما وجد في خلقته الأولى، كان سيد نفسه، يفعل ما يشاء، ويتحكم فيما يريد، ضمن النظم البدائية التي كانت حاكمة، وقانون القوة والحاجة. وعليه، فإن الانتقال من طور “إنسان الكهف” إلى “إنسان المدينة”، لا يمر إلا تحت مظلة الدولة المدنية التي لن تقمع الإنسان أو تحد من حريته، بقدر ما ستهذب انفعالاته الضارة بسواه، وتجعله محكوماً بقانون يحقق الصالح العام، ويضمن الحقوق، ويجعل هنالك إمكانية لاستمرار الجنس البشري، دون أن يبغي فردٌ على آخر.

 

من هنا، يرى سبينوزا، أنه “لكي يعيش الناس في أمان وعلى أفضل نحو ممكن، كان لزاماً عليهم أن يسعوا إلى التوحد في نظام واحد، وكان نتيجة ذلك أن الحق الذي كان لدى كل واحد منهم، بحكم الطبيعة، على الأشياء جميعاً، أصبح ينتمي إلى الجماعة”. وعليه، لم يعد من حق أحد أن يأتي وتحت أي شعار سياسي أو ديني أو أخلاقي، أن يمارس إكراهاته على الآخرين، أو يفرض آراءه، أو يسعى لفرض ما يعتبره هو “حقاً” بقوة السلاح أو القتل أو حتى العنف اللفظي، وإلا حينها عادت البشرية إلى مربعها الأول، أي “البدائية”.

 

أهمية ما تقدم، أنه يبني للواحد منا، تصوراً عن مفهوم الدولة المدنية، ومدى الحاجة لها، وضرورة الحفاظ عليها، والعمل على تطويرها لا تقويض بنيانها، خصوصا في هذه الأوقات الجدُ خطرة، في خضم عمليات تنظيم “داعش” الإرهابية، واستهدافه الأبرياء في القديح والدمام، وقبلها في الدالوة والرياض، ومناطق المملكة المختلفة.

 

إن خطر “داعش” ليس في إشعاله للفتنة المذهبية، تلك الفتنة التي يجب عدم السماح لها بالتمدد، والتي علينا العمل على معالجة أسبابها، ومواجهة خطابات التكفير والكراهية بشجاعة ووضوح، ودون مواربة. أقول، إن خطر “داعش” لا يكمن فقط في اللعب بالورقة “الطائفية”، وإنما الأشد فتكاً، هو سعيه إلى تقويض كيان الدولة، وأخذ أدوارها، وتجريدها من كُنهِها، وتفريغها من مضمونها، والهدف من ذلك، أن يشعر الناس بعدم فاعلية الدولة، وبالتالي شيئاً فشيئاً، تزداد الهوة بينها وبينهم، وهو برأيي الخطر الحقيقي الذي تمثله “داعش”.

 

إن تحقيق مبدأ المساواة، وسيادة القانون، والمواطنة التامة للجميع، ومحاسبة أصحاب الخطابات الطائفية والعنصرية، هي ما يمكن أن يحصن المجتمع من شرر “داعش”، لأن استمرار سلامة الفرد والمجتمع، مقدمة على مجاملة داعية هنا، أو سياسي هناك. ولنا في حديث الملك سلمان بن عبدالعزيز، مثالٌ واضحٌ وناجزٌ، عندما قال “هنا يستطيع أي مواطن أن يرفع قضية على الملك أو ولي عهده، أو أي فرد من الأسرة”. فإذا كان رأس الهرم السياسي، ليس فوق القانون، فكيف للبعض أن يعطي دعاة أو حزبيين أو مثقفين يمعنون خراباً في الوطن بخطاباتهم التحريضية، حصانة لم يمنحها الملك لأحد في الدولة!.

 

إنه القانون ما يجب أن يسود، وإلا عُدنا إلى الغابة، حيث تتصارع الضباع، وتتعاظم رائحة الجثث المبقورة، وهو ما تريد “داعش” ومن وراءها أن يقودونا له.

(الرياض)

السابق
ارتفاع حصيلة الهجوم الانتحاري شمال شرق نيجيريا الى 31 قتيلا
التالي
إتصالات على خط الرابية وعون على تعنته