أحمد أبو ملحم محاولة استنطاق متأخرة

فرحان صالح
أحمد أبو ملحم، صديق طفولة اكتملت بالموت... كان البارحة في ذروة عطاءاته وهو الذي بدأ حياته حاملاً الراية القومية، لم يتبدّل. كان صادقاً مع نفسه ومع من يعرفه، غادرنا باكراً. ثلاثة وسبعون عاماً قضايها حالماً بربيع يقطف منه بعضاً من جنى العمر. أحمد ابتعد عنا جسداً، سيرته الغنية أصبحت المرجعية لأجيال عرفت وتعرّفت إليه.

في حوارات معه امتدت على جلسات وأيام، وكلانا، أنا وأحمد، في حلقة الحوار الثقافي التي احتضنت نخباً طموحة، وإن كان البعض منهم أحبِط أو يئس. استرسل أحمد في كلامه بما يشبه الاعترافات، وكأن هناك رسالة يريد أن يوصلها لمن يعنيهم الأمر. قال: لقد كبرنا يا صديقي، شِخنا، فهل يا تُرى ما حملناه من مشاريع قد شاخت، كما حصل لنا؟ إن ابتعادنا عن المشروع القومي، هذا ما اعتقده، هو ما أوصلنا إلى هذا الضياع الذي تغرق فيه مجتمعاتنا. العرب ليسوا أعداء بعضهم البعض، وإن كان هناك من شرائح اجتماعية لها مصالحها، أو من عملاء أو… كما أنهم ليسوا أعداء للإيرانيين أو الأتراك، وإن كان عليهم أن يكونوا حذرين، والحذر ذاته هو ان العرب مع غيرهم من شعوب عليهم أن يمثلوا ويعبروا عما تحتاجه مجتمعاتهم، وبالتالي عليهم أن يدافعوا عن مصالح شعوبهم. إن ما أقوله هو بعض مما على العرب أن يضعوه في مشاريع لحياتهم، المطلوب مشروع عربي – إقليمي تكون فيه دولا لجوار حاضرة، تماماً كما فعلت أوروبا، لقد أخطأنا حينما ضخّمنا ثقافة العداء مع محيطنا، فمحيطنا لا يمكن وصف شعوبه بالشعوبية، وكما كنّا نفعل منذ خمسين عاماً.

وكأن العرب يريدون البقاء في الحاضر وفي السجون التي وقعتهم فيها مصالح سايكس وبيكو

المطلوب مشروع يحتضن المصالح العربية المشتركة. مشروع ننتقل فيه من رؤية كل دولة في ذاتها وبذاتها، إلى رؤية نرى فيها أننا بحاجة لبعضنا البعض. المطلوب مشروع سياسي، اقتصادي، ثقافي، تربوي، علمي، وهذا هو المدخل لتقدم شعوبنا، كما أنه المدخل لتعاون وشراكة إقليمية. العرب ذاتهم بحاجة إلى مشروع كهذا أكثر من غيرهم، وإن كنا بحاجة للتعاون والتنسيق والشراكة مع هذا المحيط الإقليمي، فإننا نحن بحاجة لمشاريع صناعية ضخمة، وإلى مشاريع لتوطين الثقافة العلمية، إلى نهضة تربوية. إننا بحاجة لنكون ذاتنا نحن العرب. هل من شك في ذلك؟

لبنان أصبح بعد العام 1970 سلة مهملات لهذا النظام أو ذاك، وربما الأنظمة التي تدّعي القومية مسؤولة أكثر من غيرها

فهل ما يمنع تحقيق ذلك هو مصالح الخارج وسياساته فقط؟ كلا. هنا في بلادنا كثر يجتمعون ويشاركون الآخر في ما نحن فيه. العبث في مصالحنا وتجييرها لصالح الغير هو الذي تقوم به شرائح وقوى انفصلت في ثقافتنا وفي مصالحها عن ثقافة ومصالح الشعوب التي تنتمي إليها. هذه الشرائح لا زالت اداة فعالة، إذ إن مصالحها وهي التي تسيطر وتحكم، الذاتية تمنع أي تعاون بين بلد عربي وآخر، وكأنها بما فعلته قد حققت أحلام ومصالح لا علاقة للشعوب التي تريد الاستقلال والحرية، وكأن العرب يريدون البقاء في الحاضر وفي السجون التي وقعتهم فيها مصالح سايكس وبيكو بعد الحرب الأولى. هذا هو جوهر الأفكار التي كان يطرحها أحمد أبو ملحم في اجتماعات حلقة الحوار الثقافي. وكأنه بما كان يطرحه كان يحاول مراجعة سيرته الذاتية.

خريطة الجزيرة العربية

كان أحمد وفي الكثير من اللقاءات يتحدث أيضاً عن رفاق له، رفاق كانت لهم الطموحات نفسها. كان يتحدث عن موسى شعيب الذي دفع دمه دفاعاً عما آمن به. وأضاف قد يكون هناك من رأي آخر لموسى في ما لو عاش ورأى ما نراه وما نعيشه اليوم. كان يذكر أيضاً حسن غريب الذي دفع أيضاً جزءاً من حياته دفاعاً عما اقتنع به وآمن. كما كان يردد اسم حسن بيان، الذي رأى وإياه ومع رفاق آخرين هذا الخندق الذي وضعته المصالح السياسية لا الاجتماعية او غيرها، بين الشعبين العراقي والسوري.

ذهب بعيداً في ذكر أشخاص هو يعرف أنني أعرفهم، وإن كانت معرفتي بهم غير معرفته بهم. أما عن عمر شبلي، المناضل المثالي فقال إنه ذهب بعيداً في خياراته. لم يُضف، وإن بدت على وجهه ابتسامة عريضة.

لقد ترهّب عبد المجيد الرافعي، هذا ما قاله أبو ملحم. إنه مثال المناضل القومي، ولكن عبد المجيد الذي يؤمن تماماً بما نؤمن به نحن ليست عنده السلطة التي بواسطتها يمكن تعديل البوصلة.

أما عن الوضع الذي يعيشه لبنان، فرأى أن لبنان أصبح بعد العام 1970 سلة مهملات لهذا النظام أو ذاك، وربما الأنظمة التي تدّعي القومية مسؤولة أكثر من غيرها عما حصل للبنان وفي لبنان. نعم، لا مبرر للصراعات العربية – العربية. إن ما نقوم به ونفعله بأنفسنا هو حاجة لغيرنا وليس حاجة لشعوبنا.

أحمد ذهب لينام، فلنتركه في أحلامه، ولنفكر في ما كتبه وفيما قاله وفي ما لم يقله أيضاً.

السابق
جنبلاط: اتجاه بعض الاقطاب السياسيين الى الدخول في مرحلة الشلل الجزئي مرفوض
التالي
بالصور: سوق السمك في صيدا تحوّل إلى مجرور والسلطات غائبة