هل يمكن لمشروع «كونفيدرالية الشرق الأفرو- آسيوي» أن يُشكِّل مخرجاً من الدمار الشامل في المنطقة؟

الشرق الاوسط الجديد

المنطقة العربية- الإسلامية والمسيحية في الشرق الأوسط الكبير دخلت “مرحلة الدمار الشامل”. إنها الآن داخل كابوس وعاصفة كاملة حيث:
الإبادات الجماعية، والقضاء على الانظمة البيئية والإيكولوجية؛
وانهيار كل أو معظم منظومات الاجتماع البشري من قيم ومباديء ومعايير حضارية وانسانية؛
وتداعي مؤسسات الدول والكيانات السياسية، وصعود التطرف الديني الفاشي والقبلي والعشائري الغرائزي بين كل المذاهب والطوائف والإديان؛
وإعادة رسم خرائط الحدود بدموية فظيعة ستضمن انخراط الجميع ضد الجميع في حروب أبدية.
لا بل نكاد نقول: إنه الدمار الشامل المؤدي إلى الانقراض الانتحاري.
رب قائل هنا أن ماتشهده المنطقة أمر طبيعي كمرحلة تاريخية. فالحروب والحروب الأهلية هي القابلة القانونية الشهيرة لكل ماهو جديد في التاريخ. والدمار الخلاّق هو الوسيلة الثابتة لهدف الولادات الجديدة.
لكن هذا المبدأ لاينطبق على هذه المنطقة لسبيين: الأول، أن الحروب الأهلية (السنّية – الشيعية، والسنية- السنية(بين الفرق والمذاهب) والشيعية- الشيعية (بين الشيع والغلاة وغير الغلاة) وبين الأصوليين والعقلانيين، وبين “القوميين” الإيرانيين والاتراك والعرب والأكراد واليهود، مستعرة منذ 1300 عام ولم تصل مرة إلى خواتيم سعيدة. وحتماً ليس ثمة مايوحي الآن البتة بأن الحروب الكارثية الراهنة ستصل هي الأخرى إلى خلق جديد أو حتى إلى نتيجة ما.
والسبب الثاني هو أن كوكب الأرض، ببيئته المرهفة وأنظمته الإيكولوجية الدقيقة، لم يعد يحتمل هذه العربدة البشرية الإجرامية المنفلتة من عقالها، والتي تُستخدم فيها كل أنواع الأسلحة الملوّثة للجو والمدمّرة للتربة وماتبقى من الزرع والشجر والمياه الجوفية. فهذه الأسلحة تستخدم بلا رادع في كل أنحاء المنطقة، في وقت يتغيّر فيه مناخ الأرض بسرعة غير مسبوقة، وهو تغيّر كان أصلاً أحد الأسباب الرئيسة لاندلاع العديد من الثورات مؤخراً في الدول العربية، خاصة في سورية واليمن، وحتى في مصر والعراقن إضافة إلى الانفجار السكاني المنفلت من عقاله.
الكابوس، إذا، بات من أمامنا والكارثة من وراءنا. ومجتمعاتنا تعاني من أمراض نفسية جماعية (سايكوباثية) واضحة وخطيرة. فهل نقف مكتوفي الأيدي ونحن ننزف على هذا النحو حتى الانقراض، كما الديناصورات؟ هل نقبل أن نكون مجرد نعاج تنتظر الذبح على مذبح الجنون المذهبي، والتطرف المَرَضي الطائفي والإثني والقَبَلي؟ وهل سنسمح للأنظمة الرسمية الإقليمية الرئيسة الراهنة (العربية والإيرانية والتركية والكردية) بأن تستخدم على هذا النحو أسلحة الدمار الشامل الدينية هذه لخدمة أهدافها القومية الأنانية، والتي ستدمّر في نهاية المطاف حتى شعوبها هي؟
بكلمة: هل نريد الحياة أم الانقراض الانتحاري؟
كابوس ومستقبل
يتعيّن أن نتعاضد ونتضامن ونقف معاً، ليس فقط لرفض هذا الكابوس الأسود الذي ينفذه شياطين مشوّهي الأديان والرسالات السماوية الحقّة وكل مضامين القيم السامية، بل أيضاً للعمل على بناء مستقبل جديد لكل شعوب المنطقة من إيرانيين وأتراك وعرب ويهود. مستقبل تسود فيه الحكمة بدل الجنون، والسلام بدل الحروب، والتضامن بدل التنازع، والسعادة بدل الشقاء، ومستقبل واعد مشرق بدل وعيد ماضٍ آسن.
ما العمل لتحقيق ذلك؟
من خلال التحرُّك على جبهات عدة في آن، وصولاً إلى بلورة كتلة تاريخية جديدة وقوى شعبية قادرة على الدفع باتجاه إخراج المنطقة من الكابوس إلى الحلم، ومن التنازع المَرَضي إلى التضامن العقلاني والأخوي.
هذه الجبهات هي:
أولاً، العمل على إطلاق وعي جديد يُخرج الأفراد والمجموعات من لعنة صراع البقاء ومن سجن الأنا الانانية، الفردية والجماعية. وعي يوضح أن البشر جميعاً، والمخلوقات جميعاً، وكل مكونات الكون، هي في الواقع وحدة واحدةـ متصلة ومتشابكة، الكل فيها موجود في الجزء، والجزء يؤثِّر تأثيراً شاملاً في الكل. وعي صافٍ جديد يوقف دمار صراع البقاء الذي كان ضرورياً خلال مراحل حياة البشر في الكهوف والغابات والصحارى، لكنه لم يعد ضرورياً البتة للبقاء الآن، بعد أن بات في مقدور المجتمعات البشرية توفير المأكل والمشرب والمسكن بأقل الجهد.
ثانيا، ربط هذا الوعي الجديد بنظرة جديدة إلى البيئة، تعود فيها الطبيعة إلى الموقع الذي كانت عليه قبل إنفصالنا الكارثي عنها في التاريخ: الأم ( غايا) التي نقدّم لها قرابين الحب والعرفان والاهتمام، من خلال إعادة بناء كل حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والروحية على أسس متوافقة مع الإيكولوجيا السليمة والصحية والمتوازنة. وعلى أي حال، هذه الدعوة لم تعد كما في السابق تبشير رومانسي، بل باتت مسألة حياة أوموت، بعد أن بات الكوارث البيئية الكبرى (وربما النهائية بالنسبة لبقاء الحياة على كوكب الأرض) على قاب قوسين أو أدنى منا.
ثالثا، الوعي الصافي الجديد المنشود سيكون صعب المنال، مالم يستند إلى تغيير القواعد المادية الموضوعية التي نعيش في إطارها. إن الانظمة الاقتصادية والسياسية الراهنة في العالم، بما في ذلك في الدول الديمقراطية، لاتفعل شيئاً سوى مفاقمة نوازع صراع البقاء الذي لم يعد ضرورياً بين البشر. كما أن العولمة النيو- ليبرالية الراهنة تقسم المجتمعات البشرية بقسوة بين 20 في المئة يخدمون 1 في المئة يملكون كل ثروات الأرض، وبين 80 في المئة يقذف بهم إلى أشداق التهميش والأفقار واللامعنى.
منطقتنا تحتاج إلى نظم اقتصادية- اجتماعية تتحقق فيها العدالة والمساواة بين البشر، سواء عبر اشتراكية إيكولوجية أو مزيج من النظامين الاشتراكي والرأسمالي كما في بعض التجارب الاسكندنافية. فبروز الوعي الجديد، الجماعي والكوني، سيكون مستحيلاً فيما الفقر والعوز أو الركض وراء الاستهلاك هو دين ناسنا وديدنهم وهمهم الأول والرئيس.
كذلك، تغيير الظروف المادية الموضوعية تتطلب تطوير أنظمة ديمقراطية حقة في المنطقة، تستند إلى الدمج الخلاق والمبدع بين الحريات الفردية التي كرسها تطور الحضارة الغربية، وبين الروح الجماعية التوحيدية والمسؤولة التي جاءت بها الحضارات الشرقية. وهذه، في حال نجحنا في بلورة الزواج السعيد في ما بينها، ستكون مساهمة قيمة وتاريخية لشعوب المنطقة إلى باقي شعوب العالم وحضاراته الساعية هي الأخرى إلى تطوير وعي حضاري- بيئي- روحي جديد ومتجاوز.
رابعاً، عنصر كبير آخر في مسألة الظروف المادية الموضوعية يتعلّق بالقضايا الجيو- استراتيجية والجيو- سياسية الكبرى في المنطقة. ففي عصر العولمة الراهن، وحتى ماقبل هذا العصر بكثير، لم يعد بإمكان أي دولة أو شعب في منطقة الشرق الأوسط الكبير أن يعيش، أو حتى يستمر في العيش بسلامة، من دون أن يضع في الاعتبار التفاعل مع بقية الشعوب والأمم في هذه المنطقة. فكما أن اهتزاز جناحي الفراشة بأكثر من اللازم في كاليفورنيا قد يتسبب بزلزال في اليابان، كذلك بات تغيّر المناخ وتلوث البحار والمياه والأجواء في أي بقعة من منطقتنا، معطوفاً عليه الكوارث التي تتسبب بها الانفجارات الديمغرافية غير المضبوطة، يؤدي إلى كوارث متصلة في باقي المناطق.
هذه المنطقة في الواقع وحدة إيكولوجية وجغرافية واحدة ووحدة تاريخية واحدة. والآن في عصر العولمة ستكون حتماً أيضاً سوقاً واحدة. وهذا بات يعني أنه إما أن تعمل أمم المنطقة التركية والإيرانية والعربية والكردية واليهودية على تطوير نظام إقليمي موحّد جديد يستند إلى التعاون والتضامن والتكامل، أو يغرق الجميع معاً في حماة دمار شامل إيكولوجي واجتماعي وثقافي وحضاري (كما يحدث الآن).
الصيغ لهكذا اتحاد كونفيدرالي أفرو- آسيوي في الشرق الأوسط الكبير، والذي يجب أن يكون بقيادة جماعية (وليس بتفرُّد العثمانية الجديدة أو الفارسية الإسلامية أو قومية عربية منبعثة) عديدة ومتنوعة، ويمكن استقاؤها من التجارب الإيجابية للمبراطوريات الفارسية والعربية والتركية السابقة، أو من تجربة الاتحاد الأوروبي الحديثة أو من كليهما معا. لكن يتعيّن على شعوب المنطقة أن تعي جيداً بأنه مالم يبدأ البحث من الآن في إقامة مثل هذا الاتحاد الأفرو- آسيوي الجديد فيما النظام العالمي يستعد لانقلابات ضخمة جديدة في بنيته، فإن الدمار الشامل الراهن في المنطقة سيتحوّل إلى قاعدة لا استثناء في تاريخ المنطقة الحديث، وسيضعنا جميعاً أمام خطر الابادات الجماعية، كما حدث مع حرب الثلاثين سنة الدينية في أوروبا القرن السابع عشر، والتي أُبيد فيها نصف سكان القارة.
الحكومات الإقليمية الراهنة لن تكون على الأرجح في وارد البحث عن هذه الصيغة التعاونية الاتحادية، إما لأنها مُغرقة في قوميتها الأنانية أو طموحاتها الامبراطورية القديمة، أو لأنها تتوزع على انتماءات خارجية مع دول كبرى متضاربة المصالح. ولذلك سيتعيّن على الكتلة الشعبية التاريخية وقوى الوعي الجديد أن تحمل هي على كاهلها مهمة العمل على تعديل موازين القوى على الأرض لصالح هذا المشروع.
خامسا، العمل على هذا الاتحاد المتوسطي الأفرو- آسيوي يتطلب في الواقع ثورة أخرى في مجال الهوية، إنطلاقاً من مقومات الوعي الصافي الجديد الذي نبحث عنه ونعمل من أجله. هذه الهوية الجديدة، ومرة أخرى في عصر العولمة، ولنسمها مجازا الهوية الشرقية أو الأفرو- آسيوية، لاُتلغي بالطبع الهويات القومية التركية والإيرانية والكردية واليهودية والعربية بل على العكس هي تغينها، لانها تضعها في إطارها الصحيح بوصفها جزءاً من مواطنة عالمية جديدة هي كل مقومات ومعاني الوعي الجديد. فأنا إنسان أنتمي إلى كل البشر والكائنات والكون، قبل أن أكون تركياً أو كردياً.. ألخ. وهذا النمط من التفكير يغيّر بشكل كامل إطلالتنا على “الأخر” ويجعله جزءاً منا بدل أن يكون الخصم والعدو المهدد لوجودنا.
وبالطبع، مثل هذه الهوية ستكون هي الأخرى مستحيلة، مالم تستند إلى الشروط التي ذكرناها أعلاه: الوعي الجديد، الثورة البيئية، الانظمة الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية الجديدة، والاتحاد الكونفيدرالي الأفرو- آسيوي.
ومرة أخرى، نجاحنا في تطوير هذه الهوية الجديدة سيكون هو إسهامنا الكبير في الحضارة العالمية التي تبحث هي الأخرى هذه الأيام، وبقلق ودأب، عن هوية عالمية مُغايرة ومواطنة عالمية تعاونية خارج الجحيم النيوليبرالي.
سادساً، وأخيرا، تفرض هذه الطفرة في الوعي الجديد إعادة نظر شاملة ليس في الأديان بحد ذاتها، بل في طبيعة مقاربتنا لها: من الاستخدامات المُغلقة والعنصرية والفاشية لها كما يحدث الآن، في إطار صدام الأصوليات، إلى إعادة بث الحياة في المعاني الروحانية الرائعة لهذه الأديان. هذه الاستخدامات رسمت بشكل قاطع خطاً فاصلاً بين الدين الانغلاقي وبين النزعة الروحانية المنفتحة والكونية التي كانت هي الجوهر الحقيقي لكل الرسالات التوحيدية الأولى في آسيا وإفريقيا . وهكذا، تم تحويل اليهودية والمسيحية والإسلام من دعوة إلى التضامن البشري والسلام والتوحُّد في الذات الإلهية، إلى صرخات قتال عنيفة تدّعي كل منها امتلاك الحقيقة المطلقة وتضع كل من هو خارجها في الجحيم السماوي أو جهنم الأرضية.
الوعي الجديد الذي نبحث عنه يجب أن يعيد للأديان التوحيدية نبضها التوحيدي وحقيقتها الروحية الصافية اللتين اكتشفهما كبار المتصوفة وعلى رأسهم إبن عربي حين قال: لقد صار قلبي قابلاً كل صورة، فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ، وألواحُ توراةٍ، ومصحفُ قرآن.
أدينُ بدين الحب أنّى توجّهتْ ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيماني.

وهذه مرة أخرى ستكون، في حال تحققها، الرسالة السامية الكبرى الثانية التي قد تقدمها الحضارات الشرقية، ليس فقط إلى العالم، بل أيضاً وربما بالدرجة الأولى إلى منطقتنا نفسها المُهددة الآن بـ”انفجار عظيم” ومجنون

السابق
شهيب: البعض اختار الموقع على مصلحة اللبنانيين
التالي
بالفيديو: استهداف «حزب الله» بصاروخ كونكورس