مقال «عسكر على مين» صالح لكل زمان.. نعيد نشره

سمير قصير
بمناسبة الذكرى العاشرة لاستشهاد المفكر والكاتب والصحفي الكبير سمير قصير الذي كان وسيبقى رمزاً لحراك الثوار والأحرار المناضلين في سبيل حرية الإنسان وكرامته في هذا الشرق وكل العالم، يعيد موقع جنوبية نشر هذه المقالة لـ سمير قصير بعنوان "عسكر على مين". ذلك أنه كتب كما لو لكل زمان. وهز صالح لأيامنا هذه.

مشهد من الذاكرة: لسنوات، ظل الشعار مدموغاً بالاحمر على احد الجدران في حي بربور بالمزرعة، على بعد امتار من المبنى الذي قطنه الاستاذ نبيه بري قبل ان يصبح رئيساً لمجلس النواب. كان شعاراً نادراً، لم يتكرر جداراً بعد جدار على غرار غيره من عبارات التعبئة، ربما لانه كان في الاصل من صنع شاعر.

“انا شعبي اكبر يا عسكر”، كان يقول الشعار، وقد خطته يد مجهولة استفزتها على الارجح حكومة العسكريين في بدايات الحرب. لكنه لم يكن من ادبيات الحرب، على العكس كان صدى لظاهرة مدنية في المقام الاول هي التظاهرات الطالبية التي عاش لبنان على وقعها مطلع السبعينات. بل ان الشعار هو في الاصل من “قرادة” شاعت يومها على ألسن الطلاب، ومما جاء فيها:

“وينن قياداتك، يا عسكر؟

بالحمرا بتسكر، يا عسكر

عسكر على مين، يا عسكر؟

عالفلاحين، يا عسكر”.

كان من الصعب على من سمع يوماً صدى تلك التظاهرات الطالبية الا يردد هذه “القرادة” وخصوصاً لازمتها أوّل من امس، اذا تسنى له المرور قرب احد المعسكرات، عفواً الجامعات.

صحيح انه تغير الكثير منذ مطلع السبعينات. فأولاً كانت كلمة “العسكر” تعني خصوصا قوى الامن الداخلي المولجة آنئذٍ بقمع التظاهرات. ثم ان الحمرا لم تعد المكان الامثل للهو والسكْر، بل ان السكْر لم يعد السبيل الوحيد للتلهي عن المصلحة العامة، إذ يمكن الوصول الى النتيجة نفسها بوسائل اكثر صحية، الرياضة مثلاً.

والاهم ان الجيش، الذي كان ينال قسطه من الانتقاد خلال الاشارة الى امتناعه عن حماية الجنوب، تغير جوهرياً، اصبح “وطنياً”، كما طمأننا قائده السابق بعد انتقاله من اليرزة الى بعبدا. واذا كان لا يزال يحاذر التوجه جنوباً، فليس بدافع من قلة الوطنية، وانما من باب الحرص على الاستراتيجيا القومية، التي لا تكتمل الا بضغط لبناني على اسرائيل من اجل القبول بالسلام العادل والشامل، كما شرح لنا رئيس الحكومة في محاولة بطولية لعقلنة اللامعقول.

جيش وطني اذاً، بل عسكر عربي. فكيف يجوز السؤال؟

يجوز.

مشهد من “الميدان”: حاجز عسكري على بعد مئة متر من احدى الجامعات، امام مقهى يقصده الطلاب في ساعات الفراغ. كل من يمر يخضع للتفتيش، ما لم يكن “مسنودا” بصلة مع جهاز. الشاب مثل الكهل، النساء مثل الرجال، المشاة مثل السيارات. الضابط الشاب بنفسه مستنفر، بنفسه، ممتلئ بخطورة مهمته، يصادر العلم اللبناني ان اخطأ العلم وظهر على مرأى من حاميه، ولا يعجبه ان يرى الطالب نفسه مرّتين، فيتوعد من يكثرون من التجوال بين الجامعة والمقهى. الضابط الشاب لا يحب الشباب، والبحث يدور عن “دفاتر الجيش”، عسى ولعل احدهم افلت من التجنيد، فالجنوب بحاجة الى كل القوى. لا، ليس الجنوب، ولكن لا فرق.

الاستاذ يخرج من المقهى مع احد طلابه. الضابط الشاب ينادي المواطن الشاب. يتدخل الاستاذ. “هذا واحد من طلابي”، يقول في محاولة لتهوين الامر. “هذا مواطن عندي”، يرد الضابط الشاب، قبل ان يدفع بالاستاذ ويباشر تفتيش كتاب “القانون المدني”.

لمَ العجَبْ من تفتيش كتاب، وان يكن كتاباً في القانون، ومدنياً فوق ذلك؟ لمَ العجَبْ ما دام الضابط الشاب يرى الشعب مواطنين “عنده”، فينسى ان مبرر وجوده ان يكون هو “عند” المواطنين، اداة لصون السيادة ومصدرها الوحيد الشعب.

عسكر على مين؟ على المواطنين؟

طبعاً، المشكلة ليست في اداء الضابط الشاب. المشكلة في من عبأ رأسه حتى يصير كأي عسكري عربي، منتفخ الذات، يحسب نفسه اسمى من “العامة”، لا يأبه مسؤول إنْ وصلوا حيث لا يريدون الذهاب.

الى الخراب. او الاغتراب.

مشهد من وراء الشاشة: ثكنة عسكرية في مؤسسة تلفزيونية. او مؤسسة تلفزيونية في ثكنة عسكرية. الاحكام العرفية فجأة من دون اعلان مسبق ولا قرار من سلطة شرعية. التوقيف الاعتباطي من دون ادنى امر قضائي. بل انقلاب على القضاء والسلطة المدنية، ومن دون بلاغ عسكري. والسؤال هنا اكثر من اي مكان آخر عن المسؤولية.

فما جرى في “المؤسسة اللبنانية للارسال” اخطر حتى من قرار تحويل بيروت معسكراً حربياً وتشويه صورة السلم الاهلي وسمعة لبنان وتطفيش المستثمرين، فضلا عن المواطنين. هو اخطر لانه يمثل النموذج الصارخ ليس فقط لسوء استخدام السلطة، بل لاستخدامها من اجل مصالح شخصية. ففي النهاية الخلاف بين مساهمين في شركة خاصة، ولا يهم، في هذا المجال على الاقل، ان كان لبعضهم صفة رسمية ولا حتى طريقة حصولهم على صفة المساهم وصلاحياته. خلاف بين مساهمين قال القضاء كلمته فيه، فيقحم الجيش فيه من دون مبرر ويتحول توقيف الاعلاميين عملية حجز رهائن حتى تبدأ مفاوضات الافراج عنهم وعن مؤسستهم، فيظهر فجأة شبح المدير الخاص للامن الخاص في “اللبنانية-السورية للتلازم والعلاقات المميزة” (شركة غير محدودة اللامسؤولية).

من يضمن ان ما حدث مع “المؤسسة اللبنانية للارسال” بحجة سياسية، فقط حجة، لن يتكرر غداً مع غيرها، ومن دون حجة، او بأيّ حجة كانت؟

من يضمن ان لا يؤدي سوء استخدام سلطة العسكر الى ان يتساءل احد غداً: عسكر على مين؟

وان يجيب: على الآمنين؟

كتب سمير قصير هذا المقال في 16/03/2001.

السابق
عن فوائد الصفقة النووية الأمريكية-الايرانية بالنسبة لإسرائيل
التالي
قباني: لا نقبل ان يكون ملف النفط والغاز منسيا او مجمدا