ماذا لو انتصرت «داعش»؟

حتى اللحظة، لبنان في عناية اليأس. الحرائق حوله وهو يحتمي بالقضبان. ومع ذلك، فما زال أمام المعنيين جداً، حصة للصمت البنّاء والحوار الجدي حول صدقية وليم شكسبير، على لسان هاملت: نكون أو لا نكون، كحقيقة مادية يمكن تحسسها وتوقعها.
عبث هذا الجدل المزمن بين طرفي النزاع في لبنان. عبث هذا الإصرار على الترداد. عبث هذا التشبث بالمواقف المتقدة غضباً وحقداً وخسائر. فادح جداً أن لا يرى البعض أن البلد آيل إلى الاختفاء، بعد دماء. مرعب هذا الاحتماء بجدران اللاسياسة السميكة والتمترس خلفها، فيما المنتظر أن لا يبقى في المشرق كله، «حجر على حجر».
بعيد جداً الزمن الذي افترق فيه فريقا النزاع في لبنان. لم يكن الافتراق مصطنعاً، ولا من صنع الخارج. فإنتاج «صنع في لبنان» تؤيده «الجماهير» التي تستهلك هذا الخلاف وتستطيب مذاقه المذهبي.

 

طبيعي جداً أن لا يكون «لبنان الواحد» موحداً. فهو متعدد، بتعدد انتماءاته إلى محاور متضادة ومتناقضة. ما يفرق اللبنانيين أكثر بكثير مما يجمعهم. وعليه، فذهاب «حزب الله» إلى القتال في سوريا هو أمر طبيعي (ولا نعطي حكماً قيمياً على ذلك)، لأنه كمقاومة في مواجهة المخاطر الإسرائيلية (سابقاً الاحتلالات الإسرائيلية)، يشكل رأس الحربة للمحور «الممانع» والمقاوم، الممتد من طهران إلى غزة مروراً بالشام والخامس والعشرين من أيار.
وعليه كذلك، فإن التزام فريق 14 آذار، وتحديداً «تيار المستقبل» بالمحور السعودي ـ الخليجي، هو أمر طبيعي، نتيجة التحالف القائم بين القوى الإقليمية، التي ترى أن المرجعية السياسية تستند إلى القوى الدولية، حيث لا شرعية للمقاومة أو لقوى التغيير.
هذا المشهد مزمن. كلما طال عمره، ازداد تعقيداً واشتباكاً.

 
اختار «حزب الله» التدخل في سوريا، بتدرج مصحوب بحجج كثيرة، ذات طابع غير استفزازي. يميل إلى تمرير العبور إلى سوريا بهدوء، ومن دون جلبة كبيرة. إلا أن المراقبين كانوا يعرفون أن «حزب الله» سينخرط في الصراع، دفاعاً عن نفسه ودفاعاً عن النظام الذي حماه طوال عقدين من الصراع المفتوح مع إسرائيل. حجة مقام السيدة زينب، وحجة قرى سورية يقيم فيها لبنانيون، كانت تمويهاً فرضته المعركة آنذاك. السفور الحالي استدعته الجبهات المفتوحة على النظام في سوريا، وعلى إيران في الخليج، وعلى الشيعة في البحرين، وعلى الحوثيين في اليمن…
تلك كانت أولويات «حزب الله» المتدرجة، حتى الانخراط التام في سوريا، حيث تدعو الحاجة. والحاجة راهناً عنوانها مواجهة تنظيمات «داعش» و «النصرة»، ومن خلفهما السعودية وتركيا وقطر، منعاً لإسقاط النظام المنهَك ميدانيا والمتشبث سياسياً، لأن سقوط النظام يعني في الداخل: «وداعاً لبنان» بكل اللبنانيين.

 

لا يُستهجن أبداً موقف تيار «المستقبل» ومن معه. فهو في محوره الطبيعي من زمان. ولا مرة كان في محور «الممانعة»، وعلاقته بالنظام السوري علاقة شك فعداء فمواجهة وانخراط في المعركة ضده. الضدان يتواجهان في سوريا، وفي اليمن، وفي العراق، وفي كل مكان. خطان متوازيان لا يلتقيان.

 

ويبدو أن لبنان، برغم هذين الانخراطين الجديين، كل حسب قواه وقدراته وأسلحته وأمواله وإعلامه، قد نجا من النكبة، وما دفعه من أثمان في الداخل، أقل حجماً من أثمان كانت يفترضها انتقال المعركة إلى الداخل.
عرسال عنوان صغير من فصل كبير، يمكن قراءته بعناية، إذا بدأت اتجاهات الحرائق تصل إلى أبواب العاصمة في الشام. الحساب القديم بين طرفي النزاع، تتساوى فيه النتائج. لا أحد تقدم على الآخر. الأمور مضبوطة ومنضبطة، حواراً وحكومة وشارعاً وأمناً. أما بعد ذلك، فالمسألة مختلفة.
نصرالله ذاهب إلى الشام ليدافع عن لبنان وعن النظام في سوريا. الأولوية لقتال التكفيريين. «داعش» و «النصرة»، و «جيش الفتح» وهو الاسم الحركي لـ «النصرة». وهو على حق في اعتبار الخطر التكفيري خطراً وجودياً. التقارير المتداولة في أكثر من عاصمة، هنا وهناك، تتحدث عن توحش غير مسبوق، واستئصال لا شبيه له، وحكم ديني يستنسخ تجربة «الخلافة»، برشدها وغيّها، بخيرها وشرورها، بحروب ردّتها وإلغائها. لا تعيش مع أحد، ولا تدع غيرها يعيش معها، مجرد عيش.

 
التفاؤل بتعديل المواقف، ولو مؤقتاً، ليس متوقعاً. السنة المعتدلون، لم يظهروا بعد عداءهم لـ «داعش» و «النصرة». عداؤهم راهناً لـ «حزب الله». وقعوا في احتضان ملتبِس لانتصارات «داعش» و «النصرة» وفي تبخيس معلن وفاضح لانتصارات المقاومة على التكفيريين. هم يدركون خطر «داعش» عليهم. لا تطمئنهم ارتكابات «النصرة» غير المصوّرة وغير المتلفزة. ولذلك، يكاد أن يكونوا في جبهة واحدة مع أهل السنة، في أي صيغة كانوا. ما محصلة هذا الموقف، إذا فازت «داعش» وانتصرت «النصرة» على لبنان واللبنانيين؟

 
وليد جنبلاط في حيرته الموضوعية، يتأرجح بين خلاصين وهلاكين. خلاص جماعته في سوريا والتخلص من نظام الأسد، وهلاك سوريا وهلاك لبنان من بعدها، ما يجعل وجود جماعته والوجود الوطني، في مهب «داعش». المسيحيون ملحَقون. التياران مصطفان خلف «حزب الله» و «المستقبل» على طول خطوط النار والسياسة. فيما المطلوب أن يلعبا دور بقاء لبنان. وهذا يتطلب قلب سلم الأولويات لدى الجميع.
من لا يرى الهلاك مع «داعش» و «النصرة»، مرتكب عن سابق تصور وتصميم. «داعش» ومن يشبهها. لا حدود لخلافتها وتوحّشها. هي بصدد إقامة القطب الإسلامي الدولي، في ظل الخلافة. فهل لبنان، بمنأى عن قطع رأسه وجزّ أقلياته وإخضاع من يتسنّن بإسلامه؟
إذا لم يكن ذلك كذلك، فلتكن لنا جرأة اليأس، ولنرسل نداء استغاثة أخيراً: ساعدونا في إنقاذ بعلبك وجبيل، بعد سقوط تدمر وتدمير نينوى…

(النهار)

السابق
إيران متمسّكة بتصدير ثورتها الإسلامية
التالي
هل سيشكل «الحشد الشعبي» نواة «الحرس الوطني»؟