يوم فضّل الخميني المنفى الفرنسيّ على دمشق حافظ الأسد

في خريف العام 1978 طلب «نائب الرئيس» صدّام حسين من الإمام روح الله الخميني مغادرة العراق بعد ثلاثة عشر عاماً قضاها الإمام في النجف (اثر نفيه من ايران في تشرين الثاني 1964 أقام الخميني في بورصة بتركيا، ثم في النجف منذ تشرين الأول 1965).
يومها، عرض الرئيس السوريّ حافظ الأسد استقبال الخميني في دمشق، لكن الإمام رفض الدعوة، وفضّل بدلاً منها التحصّل على تأشيرة دخول سياحية إلى فرنسا، ليقيم 112 يوماً في نوفل لو شاتو، وكانت الأيام المشهودة لثورة الشعب الإيراني على نظام الشاه، التي سيعود بعدها الخميني الى ايران مكرّساً المنحى الثيوقراطيّ للثورة، وجاعلاً من نظريته في الحكومة الاسلامية (ولاية الفقيه) قاعدة للنظام الجمهوري.
رفض الخميني دعوة الأسد جاءت سريعة. فضّل الإمام الإقامة في نوفل لو شاتو، المشهورة بصناعة ليكور الـ«غران مارنييه» (كونياك على برتقال) وبأجراس كنائسها، على الاقامة في جوار السيدة زينب بدمشق، إنما في ظل نظام البعث. مع أنّ الإمام كان عاصر في منفاه النجفي كل مراحل استيلاء حزب البعث على السلطة في العراق.

 
هل كان الإمام يخشى على حياته في دمشق من عملاء «السافاك»؟ ممكن. هل كان يخشى على حركته من نظام حافظ الأسد؟ ممكن. بخلاف السيد موسى الصدر لم يكن الامام الخميني بمنأى عن النظرة السلبية الى حافظ الأسد التي عمّت الأوساط الإسلاموية بعد التدخل السوريّ في لبنان عام 1976 اذ اعتبر تدخلاً لمصلحة المسيحيين، ضد المسلمين، وضد الفلسطينيين. في سوريا نفسها، التعبئة الاخوانية لشرائح من المجتمع السوري ضد النظام تؤرّخ بهذا الموقف السلبيّ العارم ضد تدخله «لمصلحة الموارنة» في لبنان.
على أية حال، لم يكن الانتقال من النجف الى دمشق ليوفّر للإمام الخميني تلك الهالة الميديائية التي أعطيت له بانتقاله الى فرنسا، حيث تحولت نوفل لو شاتو لشهور عديدة الى قبلة الصحافيين والمصوّرين من كل أنحاء الغرب، وهذا أيضاً دافع مهم، وحيوي، جعل خصم التغريب الثقافي بامتياز، الامام، يفضّل الغربة المؤقتة في الغرب، على «المقربة الدمشقية» التي كانت تحاذر من أن تكون أبدية لو قبلها.
بعد عودة الخميني الى طهران، لم يبنَ التحالف الايراني – السوري بين ليلة وضحاها. ليس صحيحاً أن «حتمية شيعية» جوفية حكمت مسار العلاقات بين النظامين الخميني والبعثي الأسدي منذ البدء. الصحيح ان الثورة الايرانية ألهمت الاسلاميين السنّة وقتها، وغذّت القناعة بأن زمن العلمانية والقانون الوضعي في هذه المنطقة من العالم قد ولّى.

 
ومع انتشار الاضطرابات في سوريا بداية الثمانينيات وصولاً الى مجازر حماة، انتشرت نغمة في الاعلام الغربي مختصرها أنّ هناك خطرا خمينيّا – ولو سنّيا، يتهدّد سوريا بعد ايران. لكن طهران نفسها لم تتردّد، وساندت نظام الأسد في فترة قمعه الدموية للاخوان. فهل كان الدافع مذهبياً فقط؟ لا. ليس فقط. صحيح أن القناعة الايرانية بأنّ نظام صدّام حسين يغذي التمرّد الاخواني في سوريا كانت ستؤول بالنتيجة الى فرز مذهبي للأصدقاء والأعداء، الا أنّ الموقف الايراني كان يحكمه أيضاً الاستشراف بأنّ التمرّد الاخواني سيصطدم بالحائط، ولا حظوظ حقيقية له لـ»شقلبة» الوضع في سوريا، وأنّ «علمانية» النظام البعثي المذمومة، لا تلغي «علمانية» الاخوان المسلمين أنفسهم، فحركتهم لم تنبع من طبقة علماء الدين في المجتمع، وثورتهم ليست ثورة رجال دين، بل أنهم يمثّلون تمرّداً على هذه القسمة بين الأمراء والعلماء والعوام، في حين تتقاطع الخمينية، مع الوهابية – السعودية، على التحديث الأيديولوجي للدين من خلال الابقاء على هذه القسمة، بين رجال الدين وبين كل من الأمراء والعوام، مع ولاية أمير السيف في الوهابية، في مقابل ولاية الرجل الدين النموذجي، «الملك – الفيلسوف» الأفلاطوني، الولي الفقيه، في الخمينية.
دعمت ايران الخمينية اذاً حافظ الأسد في مواجهة الاخوان، ودعم صدّام حسين الاخوان، وأدّى ذلك الى ردّة فعل اخوانية سلبية ضد ما اعتبر في بعض الكتابات وقتها «شذوذ الخمينية». أدى ذلك الى الكثير من التبسيط. مثلاً المراهنة على أنّ صدام سيعرّي النظام قومياً، والاخوان يتكفّلون بتعريته دينياً، فيسقط. كذلك التبسيط المتصل برد التحالف الخميني – الأسدي الى «المشترك الشيعي – العلوي» وحده، وبشكل مطلق، لا لحظات فيه، أو انعطافات، أو حسابات.

 

بسرعة، تكاملت عناصر التحالف الايراني – السوري في مواجهة صدام. المفارقة ان احدى النقاط الخلافية التي بقيت كان اسمها «حزب الله «. لم ينشأ الحزب في أحضان التحالف بين دمشق وطهران، وانما في موازاته، وكنذير اخلال بالموازين بين الحليفين.
المآل اللاحق للحزب يمنعنا من رؤيته في الثمانينيات بشكل صائب. مثال على ذلك تنكيل الحزب بالمثقفين اليساريين. عندما يستذكره يساريو اليوم يدخلون ذلك في سلسلة «جرائم النظام السوري»، لكن في الثمانينيات كان ذلك بعضاً من الرسائل التي يوجهها «حزب الله» للسوريين. الحزب الشيوعي اللبناني كان أقرب لدمشق من «حزب الله».

 
بخلاف موقف ايران ضد الاخوان في حماة، كان موقف «حزب الله المبكر» من امارة طرابلس الاسلامية مؤيداً ومؤازراً، وصولاً الى حادثة خطف حركة «المستضعفين» للرهائن السوفييت عام 1985، والتهديد بنسف السفارة السوفياتية، بغرض التأثير على الوضع في طرابلس، في مواجهة السوريين. هناك شبه اجماع اليوم على ان الحاج عماد مغنية كان وراء عملية الخطف، مع رواية يتفرّد بها المؤرخ الاسرائيلي بني موريس، حول رد سوفياتي على قتل احد الرهائن، باعتقال قريب لقيادي في الحزب واخصائه – وكان موريس وقتها مراسل «الجيروزلم بوست». الأكيد أن المؤسسة الاستخبارية الروسية تفاخر اليوم بنموذج التدخل السريع لمجموعة النخبة لديها «آلفا» وتمكنها من انقاذ باقي الرهائن. وقتها كان السيد محمد حسين فضل الله محور الوساطة المؤدية للافراج عن الرهائن السوفييت.

 
ناقض الحزب حرب سوريا وحركة أمل ضد المخيمات، وقاد لاحقاً عملية القضم العسكري الدامية لمناطق سيطرة حركة أمل من اقليم التفاح الى الضاحية الى بعلبك. في الفاصل بين هذين المسارين، كان التصادم الدموي بين الحزب والقوات السورية.
بدأ التصادم في اشتباكات بقاعية، لكنه بلغ الذروة في مجزرة ثكنة فتح الله في محلة البسطة 24 شباط 1987 حيث أعدم السوريون أكثر من عشرين مقاتلاً للحزب. ويومها كان للحزب بيان يحمل الجانب السوري المسؤولية عن المجزرة بشكل واضح، ولم ينتظر الأمر اذاً لا استعادة قوى 14 آذار للذكرى لاحقاً، ولا عروج السيد حسن نصر الله على الموضوع، لتبرير الطابع الترفعي لسياسات الحزب، ومن بينها التدخل لانقاذ النظام الأسدي في سوريا في السنوات الأخيرة.

 

لكن الأهم أنه وقت مجزرة ثكنة فتح الله التي شيّع ضحاياها بالضاحية الجنوبية في جنازة جماهيرية، أنّ مناخ الحزب وقتها كان متخوفاً من حصار سوريّ يفرض على الضاحية على غرار ما حصل لحماة وطرابلس. وهذا التخوف بالذات هو الذي حمل ايران على التدخل، لاعتبار «حزب الله» شرطاً لعلاقاتها مع دمشق، الا ان هذا التشرّط كان مدخلاً لهندسة «حزب الله» ليكون على نمط مختلف، سيحتاج لسنوات ليتبلور نموذجه من خلال التجربة التي يقودها السيد نصر الله.

 

الخميني اذ يرفض دعوة الأسد لاستقباله ويفضّل الذهاب الى فرنسا. اسلاميون سنّة يستلهمون ثورة الخميني ضد نظام الأسد. «حزب الله» الشيعي يتخوّف من حصار تدميري سوري للضاحية يكرّر ما حصل في حماة وطرابلس. ثلاثة مشاهد يستحيل على المأخوذين بالواقع الراهن ادراك أنها وجدت، وأنّ معمودية الدمّ بين ايران وآل الأسد، وبين آل الأسد و»حزب الله» كان لها تاريخ، ولم تكن مجرد اخراج لـ»حتمية مذهبية» دفينة من الظلمة الى النور ليس الا.

(القدس العربي)

السابق
بالصور: ديمة قندلفت تتزوج من وزير الاقتصاد السوري
التالي
النقاش الأزلي حول الحظر الجوي في سوريا