مذكرات عن الضاحية الجنوبية وحروبها الكثيرة

تفجير السفارة الايرانية في لبنان
عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري انتهت حرب تموز. بَقِيَت المقاتلات الاسرئيلية تجوب سماء لبنان 33 يوماً، ونفذت اسرائيل خلالها 17750 طلعة جوية بمعدل 520 طلعة يومياً. وقتلت ما يقارب 1300 لبنانياً.

كنت قد شهدتُ سابقاً حرب نيسان. لم يكن عمري قد تجاوز الأربع سنوات. رغم هذا احتفظت ذاكرة الطفولة لديَّ بصورة امرأة وقعت أرضاً بُعَيّد إنفجار ضخم كان سببه صاروخ اسرائيلي استقر داخل مبنى مؤلف من تسع طبقات.

يقع منزلي في بئر العبد. اخبرتني جدتي أنها كانت منطقة مأهولة بالمسيحيين وكانت تنتشر في أرجائها أشجار الصنوبر والسرو، ويوم اختفت الأشجار اختفى المسيحيون معها، أي بداية عام 1980 وعلى ما أظن فهو عام ملتبس. والآن وأنا أبلغ 23 من عمري، لم أصادف ولو مرة واحدة رجلاً مسيحياً أو امرأة مسيحية يسكونون الضاحية. أكانوا من آل شويفاتي أو من آل دكاش، ما عدا أثراً بسيطاً يُذكر المسلمين الذين استقروا في أمكانهم أن هناك طائفة غير مسلمة كانت تسكن منازلهم الحالية، فيما حافظ شارع دكاش على اسمه.

المواطن اللبناني يختلف عن المواطن الألماني. لا ينسى الماضي ولكنه لا يفضل تمثيله

وفي شارع الرويس الكائن بالضاحية الجنوبية، فجرت جبهة النصرة سيارة داخل حي مدني. كانت سحابات الدخان تتصاعد آتية نحوي من عدة جهات. ليست قدرة الطبيعة من عبثت هنا إنما وحوش إنسانيين. كان نصف جسد إنسان يتدلى من عن سقف متجر، وصادفت بقايا جثث وأنين وبكاء ونداءات استغاثة وأفراد يرتدون قمصان كتب عليها إنضباط. مُنعت من المرور، واضطررت للعودة إلى الوراء والإنسحاب نحو شارع مجاور خصص للمارة ولسيارات الإطفاء والإسعاف.

وعام 2004، سنح لي القدر بالوقوف محاذاة بقايا سيارة انفجرت بغالب عوالي؛ المسؤول السابق في المقاومة الإسلامية، فتنشقت رائحة الموت. كانت الرائحة مقززة. مزيج من الدم المحروق مع الحديد وتشبه كثيراً الزفر. أدركت حينها أن اسرائيل مرّت من هنا.

وقبل يوم واحد من إندلاع حرب تموز. أنجز حزب الله مشروع المربع الأمني الجديد في منطقة بئر العبد. قام بتجديد الأبواب الحديدية مضيفاً شادر ازرق تمر من تحته السيارات، كما وارتفع فوق الأبواب السوداء هيكل حديدي ضخم طوله يقارب الأربع امتار، وبداخله فتحات صغيرة جداً. ظن حزب الله أن هذه الألواح الحديدية ستحمي مراكزه من التفجيرات ولم يكن يتوقع من 12 تموز 2006 بأنه سيحمل له الحرب، فنشر راياته الصفراء وإلى جانبها رايات سوداء مكتوب عليها يا فاطمة الزهراء.

عندما انتهت الحرب، فهمت أيضاً ان المواطن اللبناني يختلف عن المواطن الألماني. لا ينسى الماضي ولكنه لا يفضل تمثيله بالمتاحف وبصور الضحايا، لا سيما قتلى الحرب الأهلية اللبنانية الاكثر أهمية من غيرهم، نظراً لما يمر به لبنان. وفي عام 2007 ظهرت محاولات جادة ومتكررة لإنتاج كتاب موحد يتناول تاريخ لبنان الحديث، غير أن الوجوه التي خاضت هذه الحرب سابقاً والتي بالغت في فصل المناطق اللبنانية بعضها عن بعض، هي نفسها من إعترض على الإقدام نحو خطوة خطيرة تحدد هوية لبنان الحالي. ولليوم، لا تاريخ للبنان بينما ألمانيا نعمت بتاريخها واتُهمت النازية ومازالت حكومة ميركل تلاحق أفراد الحركة النازية الجديدة.

لقد جعلت الجرائد التي أركن بينها طيلة أيام الأسبوع من رأسي أرشيفاً صغيراً. وجدت نفسي أحفظ كل ورقة تتحدث عن حدثاً تاريخياً. يجب أن أحفظه. كنت قد قرأت شيئاً عن الإتجار بالبشر في سينغافورة، وعن النزاع القائم في أوكرانيا وعن دولة بوروندي التي امتلأت شوارع عاصمتها بوجومبورا بالمواطنين المحتجين على إعادة ترشح بيير نكورونزيزا للولاية الرئاسية الثالثة. وبعد مرور ساعات على استنكارهم، تمكنت الجموع الغاضبة من الامساك بشرطية، فإقتادوها نحوهم وانهالوا عليها بالضرب. لكن بوروندي تبتعد عن الشرق الأوسط آلاف الأميال ويختلف نظامها الديكتاتوري عن النظام القائم في معظم دول الوطن العربي ويستحيل تصورها دون تخيُّل سجونها السرية الشبيهة بتلك الموجودة في سورية والعراق والمغرب، وبوروندي تبتعد عن الضاحية الجنوبية أيضاً. هذا المكان الذي تتجول فيه، فيشعرك الجميع بتوجه واحد ومحتوم. لا مكان للغرباء.

وللان أتساءل، هل كل هذه الأمور حدثت فعلاً؟. هل حط المستعمر الفرنسي رحاله داخلها يوماً ما؟ وهل سكنها المسيحيون ثم استولى لاحقاً المسلمون عليها؟ وهل وحدها أجهزة الإستخبارات الأميركية من يقف وراء تدمير موكب العلامة الشيعي محمد حسين فضل الله في منطقة بئر العبد عام 1985. ولماذا قُتل كل أولئك الرجال والنساء والأطفال والشيوخ حينها، وبقيَ فضل الله حياً. هذه المشيئة ليست عادلة إطلاقاً. إذ ان الحروب تظلم. ودائماً يتعدى ضحاياها قاعدة الهدف الخاطئ. كذلك، فلا أعتقد أن طالبان الأفغانية كانت قد استهدفت بالخطأ باصاً مكتظ بركاب ينتمون إلى أقلية دينية. على العكس، كان الركاب افغانيون وتعود أصولهم الدينية إلى الأقليات وهذا الأمر كافٍ كي يصبحوا هدفاً صحيحياً. وعلى هذا النحو، استطاعت الضاحية النجاة اكثر من مرة من الموت. وفي كل الأحوال، يخاف سكان الضاحية من الإرهاب. إنهم متخوفون فعلاً.

كانت كتائب عبدالله عزام استهدفت سابقاً بئر حسن بإنفجار مزدوج وأصيب 6 أطفال بجروح. التفجير عُدَّ رسالة واضحة لإيران وقد أطلقت على العملية اسم “غزوة المستشارية الإيرانية في بيروت“، وقالت إنها “ردٌ على حزب الله وعلى استمرار اعتقال الشباب المسلم في سجون لبنان”.

حقيقة واحدة لا يمكن إنكارها، أن عبدالله عزام عندما انتقمت من إيران وحزب الله، قتلت المدنيين.

السابق
اسرائيل :حكومة نتنياهو الرابعة بدون ورقة توت
التالي
حريق في مخيم للنازحين السوريين في البقاع