إيلي داغر: الدولة لم تقدم لي سوى بطاقة طائرة!

داغر يتسلم الجائزة من رئيس لجنة التحكيم للافلام القصيرة المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو، في كانّ امس

فاز المخرج اللبناني الشاب إيلي داغر بـ”ربع ساعة مجد” في مهرجان كانّ 68 مساء الأحد الفائت بعدما أسند “السعفة الذهب” للفيلم القصير من يد الموريتاني عبد الرحمن سيساكو. لحظة تاريخية، إذ أنّ هذه أول جائزة مماثلة ينالها لبناني وعربيّ من المهرجان السينمائي الأول في العالم. اختير فيلم داغر، “موج 98” (15 دقيقة)، من بين نحو خمسة آلاف فيلم قصير تم ارسالها الى إدارة المهرجان من جميع أنحاء العالم. اختار داغر البالغ من العمر 30 عاماً التحريك وسيلة لطرح أفكاره المختزلة عن العيش اللبناني المتأزم في سياق عبثي سوداوي أبوكاليبتي استعاري. عمر هو بطل الفيلم المضاد، المراهق الذي يرافق مخلوقاً عملاقاً الى عالم مواز يظهر فجأة بين مباني بيروت الشاهقة، يرافقه الى هناك حيث السماء مرصّعة بالنجوم…

* حدِّثني عنكَ كشخص: من أنتَ، وماذا عن تجاربكَ قبل الفيلم، وماذا عن خلفيتكَ الاجتماعية؟

– ترعرعتُ في الزلقا وعملتُ فيها. على رغم ذلك لم أعرف بيروت قط! عشتُ مرحلة لبنان ما بعد الحرب حيث الجميع خائف تقريباً. لم يُتَح لي اكتشاف المدينة قبل سنّ السادسة عشرة أو السابعة عشرة. تراءت بيروت عالماً آخر وحياة جديدة. أنا من عائلة متواضعة؛ ليس ثمة فنانون فيها ولا مَن يهتمون بالسينما. تستمتع عائلتي بالاصغاء الى الموسيقى، لكنّ أحداً من أفرادها لم ينخرط في الفنّ. في البداية، أردتُ دراسة الإخراج، فإذا بميدان السينما في لبنان باهتٌ لا يشجّع. تقدّمنا اليوم كثيراً، ولا سيما مع أفلام نادين لبكي وغسان سلهب. درستُ في جامعة “ألبا”، ونلتُ إجازة في الرسم. راودني حلم الإخراج، ولم أجد في المقابل ما يُحفِّز. تركّزت دراستي على الفنّ أكثر مما اهتممتُ بتقنيات الإخراج.

 

* متى بدأتَ التفكير جدياً في إنجاز “موج 98″؟

– منذ نحو ثلاث سنوات. أنهيتُ دراستي العليا في لندن، وانتقلتُ للعيش في بلجيكا. أمضيتُ العام الأول متنقلاً بين بلجيكا ولبنان. من هنا بدأت، من علاقتي الذاتية مع المكانين، من المشاهدات والشعور والتعلُّق. الفيلم اختزالٌ لأحاسيسي وما أكنّه من انطباعات حيال بيروت وناسها.

* لكنّك تدمغ الواقع برؤية سوداوية، هل أنتَ كئيبٌ في حياتك؟

– ليست هي سوداوية الى هذا الحدّ. في الفيلم وجها بيروت الضاحك والعابس. صوّرتُ المدينة أواخر التسعينات مثل عروس جميلة، ثم في الشقّ الثاني قَلّ التفاؤل. الفيلم مزيجٌ من مشهديتين.

* شخصية الفيلم الرئيسية هي عمر، مراهق قليل الكلام، يشتكي من تكرار كلّ شيء من حوله الى حدّ الملل، ولا ينفكّ يتابع نشرات الأخبار. هل هذا المراهق أنتَ؟

– في مكان ما، نعم، وإنما في إطار غير مباشر. أردتُ في الفيلم مَشاهد خيالية، من غير أن تفقد القصة بُعدها الشخصاني وبنيتها الذاتية. هي قصة المراهق عمر، لكنها من حيث الاتجاه الروائي قصة شخصية.

* هل تعمّدتَ منذ البداية إنجاز الفيلم عبر تقنية التحريك، أم أنّ ثمة ما جرَّك الى ذلك؟

– لم أكن أدركُ أيّ اتجاه أريد لحظة كتابة النصّ. أدخلتُ فيه صوراً ومقاطع فيديو لأبيّن مدى سوريالية العيش البيروتي. الشيء الذي كنتُ أعرفه هو أني لم أُرِد أشخاصاً في الفيلم هم محض ممثلين. أردتهم نوعاً من التجربة التجريدية، لئلا أجدني أبني وإياهم علاقة المخرج بالكاراكتيرات. أردتهم اختزالاً لسكان بيروت ولجيل يصنع المشهدية الإنسانية.

* نسجتَ مع بيروت علاقة متأخرة. خمسة كيلومترات ما بين الزلقا والعاصمة، وعلى رغم ذلك كنتَ بعيداً، لماذا؟

– آنذاك، لم يكن محبباً التجوّل في بيروت. أرخت الحرب تهديداً رافق الناس خطوةً خطوة. لعلّ ما جعل علاقة خاصة تنشأ بيني وبين مدينتي هو اكتشافي المتأخر لها.

* أخبِرني كيف أنجزتَ الفيلم، وأعني هنا الجانب المادي. هل أبدت جهات رسمية لبنانية حرصاً على المساعدة؟

– أنجزتُ الفيلم بجهد شخصي. تكفّلت وزارة السياحة اللبنانية ثمن تذكرة سفري الى كانّ، وعيّنت مسؤولة إعلامية وتكفلت شؤون الـ”فايسبوك” وباقي قنوات التواصل الاجتماعي.

* هذا ليس دعماً قطّ! لعلّ أحداً لم يلتفت إليكَ قبل وصول الفيلم الى كانّ. ما رأيك بحقيقة أن الفنان اللبناني مُهمَل الى أن يعترف به الغرب؟

– أجد الأمر غير مقبول بعض الشيء وينبغي أن يتغيّر. بصراحة، لا أعرف ماذا في الإمكان فعله في هذا الشأن.

* أعود إلى السؤال بطريقة أخرى: يشعر الجميع بالفخر حيال ما أنجزت، ويعتبرونه فوزاً وطنياً، فيما لبنان الرسمي لم يقدّم لكَ شيئاً، حدّ أنّك تركته وهاجرت، كيف ترى ذلك؟

– أنا شديد التعلّق بلبنان وبالحياة فيه. أُرغمتُ على الرحيل لضرورات العمل، وما أردتُ قطّ أن أذهب. المسألة ليست بهذه البساطة. يسرّني- الى شعور الآخرين بالفخر حيال ما حققتُ- أنني أساهم في ازدهار الحياة الثقافية في لبنان. ثمة مقوله هي الآتية: “إذا نجحتَ، فسينجح العالم بأسره معك، وإذا فشلتَ، فسيفشل الجميع”. أجده مناسباً جداً هنا…

* أخبِرني عن تجربتك في مهرجان كانّ من غير مجاملات أو تعمّد كيل المديح للمهرجان…

– كانت تجربة ممتعة. أبدى المنظمون اهتماماً لافتاً بي. كان ضغط العمل لا يوصف، والتوتر بلغ ذروته. هي المرة الأولى أشارك فيها في كانّ. باختصار، التجربة رائعة!

* كيف تلقيتَ نبأ اختيار فيلمك؟

– رنّ هاتفي مراراً، وصدف أنني كنتُ نائماً. لم أُجب. تكررت المحاولة، فأجبت. تطلّب الأمر وقتاً لاستيعاب ما جرى. ثم تحمّستُ كثيراً وبدأتُ التحضيرات.

* ماذا تفعل في بروكسيل؟ أنتَ هناك في مهمّة معينة أم بغرض العمل؟ هل أنتَ بلجيكي الجنسية؟

ـــ لم أحصل على الجنسية بعد. في بلجيكا أعمل “فريلانس”. منذ عامين وأنا شبه متفرّغ للفيلم. أنهيته في شباط الفائت قبل كانّ ببرهة. كنتُ المنتج أيضاً، مما تطلّب جهداً مضاعفاً لأنجزه أفضل إنجاز.

* موّلتَ الفيلم من جيبك الخاص، أم أمّنتَ له جهات إنتاجية داعمة؟

– “آفاق” و”الدوحة للأفلام” ساهمتا في الانتاج. في النهاية وجدتني أنفقُ عليه من مالي. لم أُرد أن تشوبه شائبة، فاضطررت.

* هل يصعب إنجاز فيلم تحريك في لبنان، ولا سيما مع غياب البنى التحتية في هذا المجال؟

– لا أظنّ أنّ الأمر يقتصر على لبنان فحسب. ما ينطبق هنا قد ينطبق على بلدان أخرى.

* هل التقيتَ عبد الرحمن سيساكو [المحرر: رئيس لجنة تحكيم الأفلام القصيرة المعروضة في مهرجان كانّ 68] بعد النتيجة، وهل دار بينكما حديث عن الفيلم؟

– نعم. تحدّثتُ الى اللجنة كلّها بعد توزيع الجوائز، ولمستُ كمّ أحبّوا الفيلم. جوانا حاجي توما [المخرجة اللبنانية، عضوة اللجنة] كانت نوعاً ما حاسمة. سرعان ما أجمعوا على منح الفيلم “السعفة”.

* هل يمكن القول أنّ وجود جوانا حاجي توما ساندك بعض الشيء؟

– وفق اعتقادي، لا أظنّ ذلك. قال الجميع ما لديه، فيما هي ظلّت تصغي. أبدى الجميع الرأي، وكانت هي آخر من تكلّم. على العموم، كنتُ محوطاً بالاعجاب والرضى.

* التحريك في الفيلم ليس من النوع المألوف السائد. بدا كأنّك صوّرتَ الواقع ثمّ قمتَ بتحويله…

– التحريك هنا مرسومٌ بالكامل. بيروت فقط صُوِّرت ثم تمت استعادتها تحريكياً. هذه التقنية هي تقنية الغَرْف من كلّ شيء.

* أليس قريباً من تقنية “فالس مع بشير” قليلاً؟

– لا أظنّ. في “فالس مع بشير”، بدا كلّ شيء مرسوماً حتى الأبنية. في فيلمي خليطٌ من الصور ومقاطع الفيديو. الفيلمان عن المكان المدينيّ، التحريك فيهما ليس مصنوعاً بأساليب طفولية. وكلاهما عن بيروت.

* لفتني مشهد البطل عمر – وهو هنا بطل مضاد – بينما كان جالساً على حافة أحد المباني كأنه على وشك السقوط. أهي نزعة الى تجسيد الانتحار أم النهاية المأسوية؟

– لا أظنّه أراد الانتحار. جلوسه في الأعلى دليلٌ الى رغبته في التنفّس. بنيتُ مشهداً مفتوح الأفق عوض الاختناق والضوضاء في الأسفل.

* لفتني مشهد السماء أيضاً: بدا أشبه بلوحة أبوكاليبتية تكثّف الرؤية غير الواضحة للمدينة حيث الغبار والأصوات البعيدة، هل هذه رؤيتك لبيروت؟

– أجدني كمخرج أو فنان مهموماً بنقد ما يحدث. في لبنان، تُهدَم منازل قديمة، وتُبنى عمارات فوق المساحات الخضراء، ويتقلّص حجم الحدائق العامة. أردتُ من الفيلم إسقاطاً سوريالياً غرضه نقد العمران العشوائي وثقافة التصحّر. لا يكفي أن نُظهِر بيروت مكاناً رائعاً للسهر. ثمة الكثير من المسكوت عنه على رغم فداحة التجاوزات.

http://www.youtube.com/watch?v=OinvCV3YCBE

* هناك حضور لافت للتلفزيون في الفيلم، فهل القصد نقد ثقافة التلفزيون، وعبره نقد ما هو استهلاكي مسطَّح؟

– ليس نقداً للتلفزيون في ذاته بقدر ما هو نقد للوضع العام. لا تنفكّ الأخبار تتكرر منذ التسعينات الى اليوم. المواطن على حاله: لا ماء ولا كهرباء ولا فرص عمل. المشكلات عينها ونشرات الأخبار لم تأتِ بمفردات مُبتَكرة. نملك كلّ الأسباب لننتفض وننظّم التظاهرات، لكننا لا نفعل. منهمكون باللامبالاة.

* هل ستُكمل العمل وفق تقنية التحريك، أم تخطط لتجربة أخرى؟

– لا أملك جواباً جازماً عن هذا السؤال. أتركُ الأمر للقصة، فتقرر أيّ تقنيات تناسبها أكثر. أخبرتكَ سابقاً: أولويتي الفنّ في ذاته قبل تقنيات الفيلم الكلاسيكي. المضمون قبل الإطار الذي سأرسمه له.

* أخبِرني عن أفلامك المفضّلة والمخرجين الذين تميل الى أعمالهم… هل أنتَ سينيفيليٌ في الأصل؟

– عادةَ، ينال إعجابي المخرجون الذين يفردون للصوت في الفيلم مساحة خاصة. أذكر هنا ديفيد لينتش، جيم جارموش وكريس ماركر الذي اعتبره فناناً قبل أن أراه مخرجاً. أميل الى الشعور بأنني مزيجٌ من هذا العالم أكثر من كوني صانع فيلم فحسب.

* لفتني مشهد “الفيل” وهو يقود ركّابه الى عالمٍ موازٍ، ثم نشعر بأنّ الجنّة ليست هنا، فالمنطقة صخرية وإن بدت السماء رائعة. ماذا يمثّل الهرب بالنسبة إليك؟

– المشهد برمّته كناية عن فقاعة اجتماعية نتقوقع داخلها. تعيش الجماعة في حال شبه عزلة عن الجماعة الأخرى. الواقع اللبناني في ناحية، والأفراد الذين يعانون العزلة في ناحية أخرى. ينأون بأنفسهم عن اليوميات الصعبة ليتمكنوا من الاستمرار في العيش. لا يمكن الاستماع الى الأخبار السيئة طوال الوقت. لكلٍّ عالم يحتال به على الواقع.

* يجد عمر في نهاية الفيلم أنّه لا مفرّ من الغرق…

– يحدث ذلك عندما يشعر بأنّ عالمه آخذٌ في الانهيار، إذ يستحيل بعد اليوم العيش في حال انفصال عن الواقع.

* تيمة الصداقة جلية في الفيلم من خلال علاقة الأصدقاء الأربعة. لعلّها الضوء الوحيد وسط البقعة المظلمة. الصداقة مهمة بالنسبة إليكَ إذاً؟

– بالطبع! أشعر بأن أصدقائي في بيروت هم بمثابة عائلتي. دعني أعود الى مسألة العالم الموازي. اكتشافي بيروت في سنّ المراهقة منحني شعوراً لم أعهده في السابق. كان جميلاً للغاية. في المقابل، نعيش اليوم زمن الانهيار. في الفيلم نقيضان، من غير أن يلغي أحدهما الآخر.

* أخبِرني عن الشعور الذي اعتراك لحظة الفوز بـ”السعفة”، هل كنتَ تتوقع ذلك؟

– في الواقع، سمعتُ الكثير من الإطراء حول الفيلم طوال المهرجان. كانت تسعة أفلام تتنافس، وفي العرض الأول، كان فيلمي أول الأفلام التي عُرضَت. يُقال إن الأفلام الجيدة تُعرَض بداية، ثم الأقل جودة. ارتبكتُ بعض الشيء وأنا أتسلّم الجائزة من سيساكو. لم أدرك ضرورة أن أحضّر ما سأقوله أمام نحو 1400 شخص. كانت لحظة فريدة. لم أفكّر في كلماتي، فإذا بها تخرج من دون حاجتها إليّ.

(النهار)

السابق
بالفيديو: نجوى كرم ترد بقوّة على خبير تجميل سخر منها
التالي
لن تصدقوا ماذا يحدث بعد تناول ماء جوز الهند لمدة 7 أيام