عقائد الإمامية بين الأصيل والدخيل

في جرأة قل نظيرها قام الباحث في العقيدة والتاريخ الأستاذ محمد حسين ترحيني بإصدار كتاب “عقائد الإمامية بين الأصيل والدخيل” يناقش فيه النصوص المورثة الموضوعة التي وضعها الدجالون والغلاة وأصحاب الفرق السياسية الذين اندسوا بين أصحاب الأئمة عليهم السلام وأدخلوا آلاف النصوص الروائية التي بني عليها عقائد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الإلتزام الديني والمذهبي. وقد تكون هذه العقائد صحيحة أو غير صحيحة، لأن ما بني على الباطل يبقى باطلاً، حتى لو عجن بالصحيح.
ومما قاله الباحث في مقدمة الكتاب:
“إن القرآن الكريم هو المصدر الرئيسي للتشريع، فالله سبحانه وتعالى تكفل بحفظه، حيث يقول: (إنا نحن نزلنا الذكر وإن له لحافظون) وتأتي السُّنة في المرتبة الثانية بعد كتاب الله: فالقرآن الكريم وضع القواعد العامة والأصول والمبادئ لكل ما يحتاجه الإنسان في دنياه وآخرته.غير أن السُّنة قد تكلفت بشرحها، وبيان مجملاتها، وتفريع الجزئيات على أصولها ومبادئها.
لكن هذه السُّنة بما تمثّل من مرويات عن الرسول (ص)، وعن أهل البيت (ع) تعرضت إلى هزّات، تمثلت بنقل الأحاديث عن الرسول والأئمة إلى الناس بعد تحريفها وخلطها بالباطل، والمشكلة تكمن في أن هذه الأحاديث بعد أن تغلغلت في أمهات الكتب، جاء المحدثون كالصدوق والكليني والطوسي والمجلسي وغيرهم ودوّنوا جميع الروايات والأحاديث الواردة عن أهل البيت (ع) من دون تمحيص أو غربلة، وبقيت تنتقل عبر العصور، بحسب تقدم خط التشيع أو تراجعه”
ثم ينتقل الباحث لينتقد بعض الخطباء والوعاظ وبعض رجال الدين الذين لا يفقهون علم الرجال والأسانيد فاعتمدوا على هذه الروايات الموضوعة، وأخذوا يبثونها لجهلهم ببطلانها، ولعاطفتهم الجياشة تجاه أهل البيت، ثم أصبحت هذه النصوص أساسية في عادات الناس وأصبح من الصعب أن تقنع الناس أنها عقائد باطلة إلا بالدليل العلمي والنقلي.في ذلك يقول الباحث: “لذا كانت مسؤوليتنا أن نستكمل خطوات كثيرة قام بها بعض العلماء والمحققين في محاولة لتعرية هذه العقائد الفاسدة التي أبعدتنا عن جوهر الدين الحقيقي حيث تسللت نصوص على غرار الإسرائيليات إلى كتبنا، وفيها ما يلامس الشرك بالله عز وجل، وتوضيح بطلانها إلى الناس، فكان لزاماً على الدعاة المهتمين بالخط الصحيح لأهل البيت أن يظهروا ويشهروا لعوام الشيعة عقائد وطقوساً ومواقف أُلصقت بالمذهب، ومن ثم يحرصون على نبذها ورفضها.
لقد ارتفعت في الوسط الشيعي على مر التاريخ أصوات كثيرة تدعو إلى تنقية المذهب من العقائد والخرافات التي أُلصقت به على مر العصور، ولكن جماهير علماء الشّيعة رفضوا هذه النداءات، بل وضعوا سداً منيعاً في وجه كل شيعي عاقل يفكر في ركوب قطار التّصحيح، وصوّروا للأتباع أن كل من ينتقد التّشيُّع هو عدوٌّ لأهل البيت، مأجورٌ يتلقى الدّعم المادّي والمعنوي للقضاء على المذهب الحق. وهكذا ساد الخوف في أوساط هؤلاء الأتباع من سماع أي صوت يدعو إلى المراجعة، فلم تجد دعوات التّصحيحي على كثرتها آذاناً صاغية إلّا من القلّة القليلة ممن تجردوا وصبروا على ترك الموروث والمألوف…”
ثم يوضح الباحث أن هنالك تطور في العقيدة الإمامية ولمفهوم التّشيّع حيث كان التّشيّع في زمن أهل البيت تشيّع سياسي، كل من يوالي علي (ع) ثمّ تحوّل لاحقاً إلى تشيّع ديني مذهبي وأدخل الغلوّ إلى المذهب من دون رادع أو ضابطة تضبط أو تمنع ذلك، بل إن المذهب كان يتقبل كل ذلك، ويجد لها تبريراً !” في ذلك يقول الباحث:
“فالواضح أن العقيدة الإماميّة الإثنى عشرية في عهد الأئمة إلى عصر الغيبة شيء، وبعد الغيبة شيء آخر، ثم بعد الدولة الصفوية شيء ثالث، ولا شك ولا ريب في قدسية أهل البيت (ع) لكن الكلام منحصر فيما ينسب إليهم من أفعال وأقوال وأوصاف، فقد تكون تلك الأقوال والأفعال والأوصاف صادرة، وقد لا تكون…!
نحن اليوم نواجه حركة سلفية شيعيّة أخذت تنتشر كالنّار في الهشيم، تحت مظلة الولاية، وإحياء شعائر الأئمة…”
وأخيراً يخلص الباحث، إلى ضرورة السّعي الجاد لتهذيب التراث والرصيد الثّقافي والفكري مما دسّ من أفكار الغلاة والمتعصبين وبلورة الوعي الإسلامي المشترك للوقوف بوجه بعض الدعوات المنحرفة التي تدعو للغلو وتكفير الآخر، وغربلة موروثاتنا الفكرية بين الأصيل والدخيل وتحديد مفاهيم الغلو ضمن أطر معلومة الآفاق ومحدودة المعالم، ومن ثم يدعو الباحث إلى الوسطية.
في ذلك قال الباحث: “من معالم الفكر الإسلامي أنه فكر وسطي الوجهة والنّزعة (وذلك جعلنا كم أمة وسطاً) تتجلى فيه الرؤية المتزنة المعتدلة المتكاملة للناس والحياة بعيداً عن الغلو والتقصير (وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون) الوسطية التي ننشدها هي نبذ الإفراط بالأشياء، وقد حرص النبي (ص) والأئمة على تأكيد الوسيطة والإعتدال ونبذ التطرف والمغالاة، قال أميرة المؤمنين (ع):
“هلك فيَّ إثنان محبٌّ غال ومبغضٌ قال” ومع الأسف الشديد إنّ الوسيطة معدومة بين طوائف المسلمين في أكثر المجالات ومعظمها ! بل قد تكون الحالة السّائدة هي التشدد وعدم تحمل الرأي الآخر، بل وفي داخل الطائفة الواحدة، ويحصل من التشنجات والإتهامات ما لا يحمد عقباه ويتحوّل النقاش العلمي إلى مهاترات وإسقاطات أقرب ما تكون إلى الجهل وعدم الورع والتقوى.
لقد أسهمت ظاهرتا الغلو والتفكير في تفتيت أواصر بنية الأمة الإسلامية بَيْدَ أنّ تستُّر الغلاة خلف المذهب الشّيعي لا يستلزم إتّهام هذا المذهب بالغلو، كما أن احتماء بعض التكفيريين وراء أهل السُّنة والجماعة لا يوجب إتهامهم بتهمة الكره والعداء لأهل البيت.
هذا الكتاب هو صرخة للجميع وخاصة لأصحاب المواقع الدينية للفت نظر هؤلاء إلى ضرورة الخروج من هذا النفق المظلم والإنتباه جيداً والحذر من الصراعات المذهبية والغلو والتكفير ! يجب أن نتعالى على الجراحات خدمة للإسلام والمسلمين ونسعى إلى الوحدة الإسلامية التي يدعونا إليها القرآن الكريم وديننا الحنيف، صرختنا في هذا الإتجاه !”
هذا الكتاب هو إنجاز كبير قام فيه الباحث الكريم، أعتقد أن قيمته الكبيرة لن تعرف الآن، هذا الكتاب كشف حلقة مفرغة كانت مجهولة لدى المدرسة الشيعية الجعفرية، وهذا الكتاب قد لا يعجب الكثير لأنهم لم يعتادوا على هكذا نقد، وهكذا نقداً يؤسس لولادة شيعية جديدة ليس على مستوى هدم التشيع، بل على مستوى تعزيز التشيع في الإنفتاح على الآخرين، لأننا نؤمن أنه هنالك مراجع وعلماء سكتوا عن مثل هذه الكتابات خوفاً وأن هنالك علماء ومراجع رفضوا نفسياً أن ينطقوا بمثل ما في هذا الكتاب.
هذا الكتاب سيدخل التشيع إلى كل العواصم العربية، وسيحقن دماء الشيعة لأن هذا الكتاب يوضح التشيع الحقيقي لأهل البيت، التشيع الحاضن للصحابة المنتجبين، والحاضن لقضايا الأمة وبذلك تعرف قيمة أهل البيت أنهم ليسوا بمذهب تكفير ومغالي وليسوا بمذهب خاص ضد المسلمين بل بمدرسة حاضنة لكل الألوان والعناوين الإسلامية لدى الآخر.
على أمل أن يكثر الباحث والمحقق الكريم من هكذا كتابات لأن المكتبة الإسلامية تفتقد لهكذا نوع من الكتابات.

السابق
هل يمكن أن ينهار ما تبقى من نظام الأسد في أي لحظة؟
التالي
رسالة من بلاد النجاسة