تصلّب الشرايين: من التحرير الى الحروب الاستباقية فالوجودية

قبل خمسة عشر عاماً من تاريخه، تحرّر الجنوب، بفضل المجهود العسكري بالدرجة الأولى، لكن أيضاً بعد تأطير النزاع بين «حزب الله» والمحتل الاسرائيلي والميليشيا المعاونة له بموجب «اتفاق نيسان» الذي وفّر، بحصره نطاق المواجهة، وضبطه لشروطها، وتشكيل لجنة مراقبة لها، المعادلة اللازمة للتراكم التحريريّ.

ومع أن سياق احتلال جنوبنا يختلف زمنياً، وفي ترتيب القرارات الدولية، عن الأراضي العربية المحتلة عام سبعة وستين، وبينها هضبة الجولان، فقد انتابت قوى «وحدة المسار والمصير» في الشهرين الأخيرين من حياة الرئيس حافظ الأسد نوبات ارتياب مما اعتبرته انسحاباً اسرائيلياً مفخّخاً، طالما هو جاء بشكل أحاديّ، والقصد منه فصل المسار اللبنانيّ، الفرع، عن المسار السوريّ، الأصل.

 

في الوقت نفسه، فرضت نفسها وقائع انسحاب جيش الاحتلال وانهيار ميليشيا العملاء وانتشار «حزب الله» على طول الحدود. فحاول «حزب الله» أنْ يؤمّن شرطين لازمين لسردية التحرير: فتمثّل بعضُ اللبننة في خطابه، وسعى للتكامل مع الطابع الشعبي للحدث، من حيث أنّه في عمقه، مشهد مزدوج: عودة القرى، والعودة اليها.

لكن الجنوب المستعاد لم يرجع الى سلطة الدولة المركزية، إنّما خضع لسلطة الحزب. مع مفارقة أخرى: بعد التحرير، والى يوم الجلاء السوري عن لبنان، بقي «الشريط الحدودي»، احدى منطقتين من لبنان لا تنتشر فيها القوات السورية (المنطقة ثانياً كانت تلك التي تتبع «القوات اللبنانية» في كسروان، فلم يدخلها السوريّون حتى بعد حظر الأخيرة).

 

الخمسة عشر عاماً التي تفصلنا عن خلاصة حرب التراكم التحريري، قضاها الحزب بالأحرى، في حرب مع فكرة التراكم نفسها. اتفاق نيسان أتاح هذا التراكم من أجل التحرير، لكن الخاتمة المنطقية للاتفاق أن تحقيق هذا الانجاز يستوجب العودة الى اتفاقية الهدنة. بدلاً من ذلك، فتح الحزب جبهة قنص في مزارع شبعا، كي لا يفسد «التلازم بين المسارين«، لكن هنا أيضاً لم يكن ليتقبل الخلاصة المنطقية لهذا التلازم، أي مقال التسوية العربية الاسرائيلية نفسه. وفي الداخل، لم يكن الحزب في موقع تصادميّ مباشر مع التراكم السيادي، المسيحي ثم المختلط، لكن هنا أيضاً وجد نفسه في تناقض مع المآل النهائي لهذا التراكم: الجلاء السوريّ. فسعى بدلاً من ذلك، لتجيير الجلاء لحسابه، ووراثة الوصاية.

 

 

لكن هذه المشكلة المتنامية مع فكرة التراكم، سواء كان تراكماً تحريرياً جنوباً، أو سيادياً، سرعان ما دفعت بالحزب الى تراكم من نوع آخر بعد حرب تموز.

فبعد هذه الحرب العدوانية، وبدلاً من تدارك الانشطار المجتمعي والكياني على خلفيتها، دخل الحزب في منطق الحروب الاستباقية: مارسها في الداخل أولاً، تحت شعار «السلاح لحماية السلاح»، وتطعيم بيروت في السابع من أيّار من الفتنة، بالفتنة. ثم دخل في حرب استباقية مزمنة في سوريا، تحت شعار انّه أفضل أن يلاقي التكفيريين ويدحرهم حيث هم. فكان تراكم وقائع الحسم، من القصير الى يبرود الى القلمون. ما كانت النتيجة؟ بعد أكثر من حسم عدنا الى مربّع «الحرب الوجودية». سنوات طويلة ويتحدّث فيها الحزب، على الطريقة الأميركية، عن «حرب استباقية» تقتل الشرّ المضاد له في مهده، فتكون النتيجة اعلامنا أنّ الشرّ قد اشتدّ عوده، وصار خطراً وجوديّاً.

 

في الدعايات الطبية «ان درهم وقاية خير من قنطار علاج»، لكن في حالة «حزب الله»، كل دراهم الوقاية التي سمحت له بالتغني بـ»الحسم» مرة تلو أخرى، انتهت الى مآل مغاير: الداء التكفيري في كل مكان، ولا تنفع معه الا الحرب الوجودية الكلية، والتعبئة العامة، والأرض المحروقة. الشرايين التي عولجت استباقياً تبيّن بالنتيجة أنّها تصلّبت في كل موضع. مع ذلك، ثمة في الكلام التصلّبي الأخير للسيد حسن، وفي عزّ المكابرة اللفظية والاتهامية، صوت خان صاحبه، وقال لجمهوره: انها حرب وجودية، ووجودية الحرب معناها أنّه يمكن أن نُهزَم – مثل سائر البشر. والا كيف ستكون الحرب وجودية؟

(المستقبل)

السابق
عيد التحرير يفقد بهجته..
التالي
الفراغ… وغياب الإحباط