المثقفون الشيعة المعادون لـ«حزب الله»

أن يكون هناك مثقفون شيعة يقفون بقلمهم وفكرهم ضد مشروع “حزب الله” التدميري، فهذا من الأمور الايجابية، بالتأكيد: إيجابية للحياة السياسية، التي تسمح بالتنوع داخل أكثر الطوائف تراصاً واصطفافاً خلف هذا الحزب، ثم إيجابية طبائع أولئك المثقفين، التي تتسم بدرجة عالية من الشجاعة. إيجابية فكرية أيضاً، تنضح منهم، في تلك القدرة على توليد سجال فكري؛ سجال متقطع ومتوقف عند حدود بعينها، ولكنه أفضل من الموات الفكري الذي كان يمكن أن يحلّ لو لم ينوجد المثقفون الشيعة الأحرار.

 

لكن الظاهرة هذه ليست كلها إيجابيات. فثمة مشكلة، أو أكثر، تبطنها. فأن ينشق إبن الطائفة عن إجماع طائفته الكاسح، يعني انه قام بخيار فردي، حرّ، فضيلته هي قناعته الخاصة. أما ان يرتدي هذا الخيار إسم الجماعة التي انشق عنها، فهذا التناقض بعينه، ناهيك عن الإلتباس. أفراد خارجون عن إجماع الجماعة، يعودون فيعرّفون عن أنفسهم، ضمناً أو علانيةً، بصفتهم من هذه الجماعة التي خرجوا منها؛ أو أنهم يجتمعون ضمن نشاط أهلي، تحت مسميات مذهبية مثل “التيار الشيعي الحر”، أو تحت عباءة رجال دين شيعة مناهضين لـ”حزب الله”: انهم المثقفون الشيعة الواقفون ضد “حزب الله”. وأفضل لحظات تجلّي هويتهم الفكرية المذهبية هذه، هي عندما يصدّون نقداً، أو هجوماً على الحزب من خارج الدوائر المألوفة؛ تراهم ساعتها، وكأن ألَماً طارئاً غلبهم، فخاضوا معركتهم ضد أعداء “حزب الله” الخارجيين، بمنطق ضمني يسهل إجلاءه، تقرأه في متن كلامهم، أو نصهم.

 

إذ ليس كل ما يقولونه يكتبونه، مثلهم مثل السياسييين الكبار، الذين لهم كلمة للمجالس، وأخرى للمنابر: كلمة يكونون فيها شيعة تقدميين، بمفردات مذهبية مبطنة، وكلمة يكونون فيها شيعة مذهبيين، بقاموس طائفي مذهبي صريح. ونحن هنا لا نلومهم. فهم ضحية نظامهم السياسي، الذي لا يسمح لهم بالبروز أو التأثير، إلا بصفتهم الدينية المذهبية، حتى لو غُلِّفت هذه الصفة بأوصاف أخرى تأنس لها الآذان المعادية لـ”حزب الله”. وهم بذلك يتساوون مع بقية اللبنانيين، بصفتهم أبناء نظامهم السياسي. يعايرون مواطني الدول العربية الأخرى، ذات الأنظمة الإستبدادية، أو الرجعية، أو الظلامية، يصفونهم بأبشع النعوت السياسية، فيسترسلون في هذا الوصف: مواطنون عاجزون عن الخروج من التكوين الذي ترعرعوا عليه، عن الالتقاء ببعضهم، عن التعاون والتنسيق… لأنهم نشأوا على نظام قاهر قتل مبادراتهم وفرديتهم وعطل طاقاتهم..الخ.

 

هنا بالذات، يبدو اللبنانيون كأنهم عاجزين عن رؤية الحَدَبة التي في ظهرهم. يصولون ويجولون في طائفيتهم مفتخرين بتنوعهم وديموقراطيتهم العريقين، التي حرم منهما العرب الباقون، ولا يرون كم هم صنيعة نظامهم الطائفي الفاشل والمأزوم، فيمدّونه بجرعات المورفين حفاظاً على ما تبقى له من حياة. هذا النقص في البصيرة لا يقتصر على مثقفينا، إنما هو ملك عموم اللبنانيين. والحق طبعاً ليس عليهم، خصوصا اذا كانوا من أصحاب الطموح بالتأثير على الباقين. فباتت بذلك الصفة العلانية، كما الضمنية التي يفهمها الجميع، برموزها المختلفة، الصفة الضامنة للترويج والتسويق. وامتدت هذه النزعة حتى الإنتاج الأدبي، فصرتَ ترى علمانيين تقدميين قدماء، يتحولون إلى شيعة، ويعرفون عن أنفسهم كشيعة، ويضعون على صدارة روايتهم الصفة الشيعية… إعتقاداً منهم بأن ذلك سوف يدرّ عليهم جمهوراً عريضاً، وهم على حق بذلك. في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وحتى أواسطها، وُجد من سمّوا أنفسهم ” المسيحيين التقدميين” المناهضين لسياسة الأحزاب المسيحية اليمينية، والملتحقين بالمعسكر “الوطني الاسلامي”، التقدمي.

 

كان السِعار الطائفي وقتها على درجة أقل من ذاك الذي نشهده اليوم. كان غرضهم التبيان بأنه، في الوسط المسيحي، هناك من كَسَر الإصطفاف الطائفي. لكنهم بعد الحرب، اختفوا، لينضموا، كلٌ حسب ظروفه، إلى أحد الأحزاب المسيحية المهيمنة على الساحة، أو ليصنعوا لأنفسهم موقع “الشخصية المسيحية المستقلة”، “مسيحية”، قبل “مستقلة”. فالذين أرادوا البقاء على المسرح، و”الانخراط في الحياة السياسية”، اختفوا تماماً عن المشهد بصفتهم مسيحيين خارجين عن الأطر، والتحقوا بطوائفهم، كل بوصفته الخاصة، وبجرعات زائدة أحياناً. فماذا نتوقع من نظرائهم الشيعة، بعد أن يستقر الوضع على ميزان، لن يكون أقل طائفية من الموازين التي سبقته؟

(المدن)

السابق
مديرة اليونيسكو تحذر من ان أي تدمير لآثار تدمر: سيشكل خسارة هائلة للبشرية
التالي
أبو فاعور في المؤتمر الطبي في مستشفى الجعيتاوي : قطار اصلاح القطاع الصحي انطلق ولن يتوقف ونلتزم القانون