فصام إيراني

منذ انتخاب حسن روحاني رئيساً للجمهورية قبل عامين تقريباً، تساءل كثيرون: هل يكون روحاني غورباتشوف إيران نتيجة للتشابه في الكثير من الوقائع والمعطيات بين الوضع الإيراني، وحالة الاتحاد السوفياتي في مرحلة بريجنيف، ولاحقاً غورباتشوف، أم يكون دينغ سياو بينغ، الزعيم الصيني الذي قاد عملية إصلاح ضخمة حافظت على الأعمدة المشكلة للنظام الماوي من دون ماو؟

هذا النقاش لم يطرح علنا في ايران، لكن كل المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كانت تصب عملياً وضمناً في طاحونة هذا النقاش. حالياً اصبح من الواضح جداً أن النظام الإيراني وعلى قاعدة نهج “الضد يخدم ضده” يعاني من “فصام” حاد في كل مساراته، وهي تقوده حتماً إلى سرعة الحسم في توجهاته، حتى لا يفاجأ بساعة التغيير على غير ما يريده في مرحلة الحقائق المشتعلة على مساحة المنطقة، وكأنه لا توجد حدود غير قابلة للكسر. ولعل أفضل توصيف للوضع، هو ما قالته الكاتبة الإيرانية سحر دليجاني (التي تشكل وحدها حالة كاملة الأوصاف لما يحصل في إيران، فقد ولدت في سجن إيفين عام ١٩٨٣ وهو المكان الذي كان والداها معتقلين فيه): “لقد انتهى النظام ثقافياً واجتماعياً ولم يبق الا ان ينتهي سياسياً”، مضيفة وكأنها ترفض مصير الاتحاد السوفياتي خوفاً من نار الثورة: “إن أحداً لا يريد ثورة جديدة في إيران. الناس يريدون إصلاح النظام، والإصلاح يتطلب وقتاً طويلاً” وطبعاً، صبراً عظيماً ودقة أعظم في القرارات.

قراءة ما يحدث في نظام الولي الفقيه وما يصدر من تصريحات، تؤكد ان منسوب القوة العالي لم يعد له سقف واضح كما حصل في الزمن “البريجنيفي”، علماً أن الفرق كبير جداً بين ما كان السوفيات يملكونه، وما تملكه وتستطيع الجمهورية الاسلامية في ايران أن تنفذه .

في الوقت الذي تم فيه نزع شعار “الموت لأميركا” من الخطابات والشوارع، ويتم تبادل الزيارات “الاقتصادية” بحفاوة واضحة في طهران وواشنطن على السواء، يعلن قائد الحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري، أن “واشنطن رضخت لطهران وهي تدرك القوة العظيمة للثورة والشعب”، ويذهب نائبه الجنرال حسين سلامي في التطرّف والاستقواء إلى حد القول “ولّى استخدام القوة العسكرية. عليها أن تعلم (واشنطن) أن قواعدها الجوية ستحترق، وأن أول طلعة للطيارين ستكون الاخيرة لهم”، مؤكدا في النهاية أن “إيران أعدت قواتها لحرب طويلة مع أميركا لتنتصر فيها”. هذا في وقت يكاد فيه الاتفاق النووي النهائي قد اكتملت صياغته للتوقيع عليه. وقد وصل الأمر إلى أن ٢٠٠ نائب من أصل ٢٩٠ نائباً وقعوا على بيان لصياغة مشروع قانون، يرفض متابعة المفاوضات النووية قبل اعتذار أميركي عن التهديدات التي أطلقها بعض المسؤولين الأميركيين الكبار حول “الخيار الآخر” أي العسكري. لكن فور قول أحد أركان تكتل “السائرون على نهج الولاية”، الذي يرأسه علي لاريجاني، بإن القرار “غير حكيم، ويضعف قدرة الوفد المفاوض على التفاوض” فإن غالبية النواب “لحسوا توقيعهم” بحجج واهية وانتهى الأمر. أيضاً، يبدو جلياً الفصام بين الماضي المؤدلج وحاضر الواقعية السياسية.

وفي الوقت الذي استفاض فيه الرئيس روحاني بالكلام بإن القوات الإيرانية “مصدر هدوء لشعوب المنطقة، وإن الرؤية الإيرانية ليست عسكرية”، فإن قائد الحرس الثوري الجنرال جعفري، رفع منسوب التصعيد من الكلام عن “الامبراطورية” إلى “أن الهلال الشيعي أصبح عند عدن” وليس كما في السابق في العراق. وفي هذا تهديد مباشر لأمن المنطقة كلها بإقحامها في حرب مذهبية مكشوفة، تضع السنة كلهم في موقع الدفاع المشروع عن وجودهم وليس فقط نفوذهم. وإذا كانت السلطات الإيرانية الرسمية عملت على الالتفاف على تصريح مستشار الرئيس روحاني، وزير الأمن السابق علي يونسي حول “الامبراطورية” متهمة الاعلام بتحوير كلام الوزير، ومن ثم جرت مساءلته أمام محكمة رجال الدين، فإنها التزمت الصمت حيال تصريح الجنرال جعفري. بهذا لم يعد من أسرار، فالفصام وقع نهائياً بين الثورة التي قادها الإمام الخميني تحت شعار “إسلامية” أي لا شيعية ولا سنية، و أصبحت على يد “الولي المجدد” آية الله علي خامنئي، مشروعاً “إمبراطورياً يقوم على هلال شيعي يمتد من حلب الى عدن”.

وإضافة إلى ما سبق ذكره، وجد “الولي المجدد” خامنئي في “عاصفة الحزم” فرصة ثمينة لاستبدال فلسطين وقضيتها بالسعودية، ولا داعي للكلام المفصل عن الحملة الممنهجة في إلصاق كل التعابير والأوصاف التي كانت متوافرة في الخطاب الثوري الإيراني، ضد “السرطان الاسرائيلي”، بالسعودية، إلى جانب إلصاق الأحداث بما يتناسب مع الخطاب المذهبي، مثل أن “السعودية تتبع في اليمن نهج سياسة الأمويين”. ويبدو أن كل هذا جزء من الدفاع عن التدخل الإيراني المكشوف في سوريا منذ أربع سنوات. وربما يكون هذا الاستبدال تحضيراً لما يمكن أن يقع من طرح لحلول سياسية لقضية فلسطين، ومعها اسرائيل.

كل هذا يشكل الفصل الأول من مسألة الفصام في المواقف الإيرانية، الناتج عن اقتراب ساعة الصفر لإعلان الاتفاق مع واشنطن، ومن ثم التقدم في مسار مفتوح على التحالف الكامل مع الأميركي. تحالفٌ لن يكون كعلاقة بكين مع واشنطن بسبب الفارق الشاسع بالإحجام بين إيران والصين.. لكن يبقى فصام آخر، هو في الداخل الإيراني، حيث يعلم نظام “الولي المجدد” أن الشعب الإيراني في عجلة من أمره للمصالحة مع أميركا، لاسيما أنه لم يعاديها كما عادتها حكومة الولاية منذ مطلع الثورة، واحتلال السفارة الأميركية لاستنهاض عداء لم يكن موجوداً.

(المدن)

السابق
ابو فاعور أحال على النيابة التمييزية مسؤولين عن مستودع مواد كيميائية
التالي
حزب الله يطلق أغنية لجهاد مغنية: إذهبوا إلى سوريا