إسبانيا: عازفو الـ «فلامنكو» يتحدّون البطالة

لم يكن الأمر يحتاج إلى شروح مطولة، فصوت دييغو كان يعبر بما يكفي عن حاله. أخذ يدوزن حنجرته بعد لحظات تردد، بعدما وجد نفسه مدفوعاً إلى امتحان لموهبته أمام غريب قابله للتو. الموقف في الأساس محرج للجميع، لكن النتائج ستجعل دييغو الضحية الأولى.
الصدفة المركبة وضعته في هذا الموقف. كان يتمشى في طريقه إلى قلب المدينة القديمة في ملقة، فصادف صديقه عازف الغيتار خوان. الأخير كان يقف أمام تراس مقهى على ساحة «دي لا آدوانا» (الجمارك)، يودع زائراً للمدينة تعرف عليه مؤخراً. عرّج دييغو يريد سيجارة، فوجد خوان يقدمه بجدية مفرطة: «هذا صديقي دييغو، إنه فنان، لكنه مغفل». دييغو المرتبك لم يكن يفهم شيئاً من محادثة تجري بالانكليزية. لسبب لم يكن واضحاً، أصر خوان بشدّة عليه كي يؤدي أغنية «فلامينغو» كتحية للغريب المغادر.
في النهاية وقف دييغو بتأهّب أمام طاولة المقهى، وانطلق بغناء صادح. حاصرته نظرات المارة ورواد المقهى الذين لفتتهم غرابة هذا العرض المنفرد لمستمع وحيد. لم تمضِ دقيــقة حتى أوقفــته نــوبة سعال عنيفة، لم يستطع التخلص منها بسهولة. ربّت خوان على ظهره مواسياً، ثم توجه بالكلام إلى الغريب الجالس قبالتهم «لا تحكم عليه، هذا مجرد حادث. إنه فنان فعلا، لكنه كما قلت لك مغفل».
كان وقع التعليق يميل أكثر إلى الرثاء واللوم، خصوصاً مع منظر دييغو الذي أظهرت ابتسامته الخجولة أنه فقد على الأقل اثنين من أسنانه الأمامية. من تعاسة حاله ومنظره يمكن وضعه داخل لوحة بيكاسو «عازف الغيتار العجوز» لتخيل كيف كان في شبابه.
مغني «الفلامنكو» الشاب في البطالة منذ وقت ليس بقليل، وهو ما جعله أسيراً للكحول. مرت أشهر لم يعد يجد فيها فرصة للغناء، وسبقتها أشهر طويلة من العمل المتراجع بحدة. الأزمة المالية التي ضربت اسبانيا جعلتها تسجل معدل بطالة قياسياً، خصوصا في إقليم الأندلس الذي تنتمي إليه مدينة ملقة.
كان مزاج عازف الغيتار خوان متكدراً. بعد مغادرة صديقه، المغني الخائب، أسرّ بصوت متعب لصاحبه الجديد: «الوضع صعب». أشار إلى عائلة كانت تجلس كورشة عمل مستندة إلى أسوار قديمة، تضم داخلها تجمعاً لعدة متاحف. كانت العائلة، المكونة من أم وابنتين، تصنع مطرزات مختلفة، لتبيعها تذكارات لزوار المدينة. ألقى خوان عليهم تحية عابرة، واتجه بالكلام لصاحبه «طوال اليوم لم يبيعوا أي شيء». صمت قليلاً، ثم أكمل بعد تردد «أحيانا أفكر في العودة».
في الحقيقة، خوان هو ليس خوان. منظره يغش كثيرين لا يشكّون لحظة بأنه اسباني. شاب متوسط القامة تجاوز الأربعين، يقف على طرف الشارع حاملا غيتاره بلحية طويلة وبشرة مرتوية من الشمس. كان يفاجئ من يتعرف عليهم بأنه في الحقيقة جان بيير البلجيكي، لكنه يعتمد المقابل لاسمه بالاسبانية. إنه شاب قاده عشق «الفلامنكو» إلى ملقة قبل عقد ونصف، فتحول سفر التمرّس في العزف إلى زواج مع المدينة.
في اليوم الســابق جلــس يدنــدن منزوياً عند أحد أطــراف الكاتدرائية القديــمة. كان يتدرب، لكن عزفــه من قلــب مهمــوم جذب بعض المعجبين. منذ أشهر وهو يستخدم غيتاراً بديلاً، فالشرطة صادرت غيتاره «الممتاز» ولم تقبل بإعادته.
يعمل خوان على الشاطئ قبل أن تصبح الشمس حادة. يتوقف ليلتقط أنفاسه، ثم يغادر على وقت الغداء للعزف إلى جانب تراس مطعم كان يتعاقد معه قبل سنوات الأزمة. بعدها يعود للعزف بجوار ساحة الكاتدرائية الكبيرة. في الليل، يمكن أن تجده أمام بارات رخيصة تنافس غيرها بلافتات «بيرة بيورو واحد».
لكن لماذا لا يستخرج رخــصة ويريــح رأسه؟ يجيب كأنه يكرر قصة مملة «البــقاء من دون رخصة كل هذه السنين سيكون غباء مطلــقا». يقول إنه حاول ذلك مراراً لكنه كان يجــد نفــسه وسط دوامة: «الدائرة السياحية تقول إنها لا تعطي رخصة لأنه ليس هناك قانون يمنع العزف في الشارع، لكن الشرطة لا تفهم ذلك وتقول إنه لا يهمها».
حكايات استعصاء التراخيص يكررها كثيرون. في المساء السابق جاءت دورية وصادرت غيتاره البديل، احتاج نصف ساعة لاسترضائهم وإعادته. بعد العرض الفاشــل لصديقه المغني، والإطلالة على عوز العائلة المحاطة بالمطرزات البيضاء، يغلب الضجر مزاج خوان.
يقول بعبوس «صار الوضع صعباً، وفوق ذلك تأتي الشرطة»، قبل أن يطــلق تنهيدة طويلة: «أحيانا أفكر في العــودة». يبتســم وهو يسمع تعليق الغريب: «إلى اللقاء إذا، في بلجيكا أم ملقة؟». كلاهما يدرك أنها مجرد شكوى مزمنة في حبّ لا شفاء منه.

(السفير)

السابق
خلية الأزمة تجتمع والمشنوق يؤكد أن «حزب الله» يعرقل
التالي
50% من اللاجئين السوريين يعملون في لبنان ولا مَن يراعي القوانين «العمل»

تابعوا اهم اخبارنا على تطبيق الوتساب

يقدّم موقع جنوبية مواضيع خاصّة وحصرية، تتضمن صوراً ووثائق وأخباراً من مصادر موثوقة ومتنوّعة تتراوح بين السياسة والمجتمع والاقتصاد والأمن والفن والترفيه والثقافة.

مجموعة جنوبية على الوتساب