من قوة الحق إلى حق القوة

صاحبنا من دعاة القضية العادلة. ساهم في إنعاشها منذ سنوات. قاتل في شبابه من أجلها. وربما تعثر مسار حياته لشدّة ما التصق بالقضية العادلة التي يدافع عنها. ثم شيئاً فشيئاً، هي نفسها القضية العادلة تحولت إلى مسألة قوة عارية؛ لم يَعُد، كما في السابق، يذكر مظالم أصحابها، يفند الإجحاف المتحكّم بهم، يغْتبط بنفسه المحبة للعدالة السامية المتسامية. لا، لم يَعُد مقبلاً على القضية بصفتها عادلة، إنما بصفتها “قوية”؛ أي ان المكافحين من أجلها غيروا “موازين القوة على الأرض”، التي أصبحت لصالحهم. هكذا، صرت كل ما تلتقيه، مثابراً على نصرة أولئك “المكافحين”، يكلمك عنهم بنشوة، عن انتصاراتهم الأكيدة، عن البهجة التي تمتلكه لدى سماعه خطب القادة منهم. ولا يتردّد لحظة في استعادة عباراتهم، حرفياً غالباً؛ فهو منتصر حتماً، ليس كما في البداية، بسبب قوة حقه، إنما كما سلكته قضيته، فأصبحت حق القوة. ولكن المشكلة هي ان هذه القوة ليست من النوع الباعث على الحياة، على تجديدها، إنما هي من النوع القاتل. ليست انتخابات، أو هيمنة فكرية لمشروع مقنع، أو قوة مال جارفة، أو مجتمع مدني وجمعيات أهلية نشطة، أو تيار شعبي عارم، موحّد، وجامح… إنما هي قوة مدافع الميليشيات المسلحة المدافعة عن القضية المحقة.

ليس مهماً بمن تصطدم، ومن تقتل. المهم انها، من أجل تحقيق أهدافها العادلة، عليها ان تتسلح وتتدرب وتهاجم وتحرق وتدمر… وصاحبنا ليس مسؤولا حزبياً “روحياً”، ولا “قائدا” عسكرياً من الوجوه البارزة، أصحاب الوظيفة المميزة في وضع الأقنعة، واعتماد معايير مغمْغمة، وتغييب الوعي، وحقن الجمهور المناصر بمنشِّطات ضفائر الكذب المتراكمة، المتخصصة في تحويل القضايا العادلة إلى ذريعة شيطانية. صاحبنا مواطن بسيط، أكثر من بسيط بقليل، هو متوسط المواطن اللبناني، أو العربي، وفي عقله رسخت المعادلة، من ان صاحب القوة هو صاحب الحق، وليس العكس، من ان صاحب الحق هو صاحب قوة. لذلك فهو منتصر دائما وأبداً؛ ما أن تبدأ معركة، حتى ينتصر. ما ان تنتهي حتى ينتصر، أيضاً.

في كل الحالات، سواء هُزم أو تعادل، أو كسب فهو منتصر. انه محمول على أجنحة القوة العارية. هكذا، إذا أراد صاحبنا ان يتخيل المستقبل فأمامه سيناريوهان: الأول ان “تنتصر” فعلاً قوته المسلحة، ويكون انتصار مقيماً. وليكتمل انتصارها، عليها ان تكون قتلت كل أعدائها، وسلّطت سيفها على الناجين منهم. فتكون طريقها بذلك سالكة جداً، راسخة جداً، نحو الديكتاتورية. أو، في حال السيناريو الثاني، أن تتعادل، فيستمر في القتال، ولا يكون اعداؤها إلا على صورتها، يؤمنون بحقوق القوة، لا بقوة الحق… فندخل بذلك نفقا طويلا ومظلما، شبيهاً بالذي نتوغل فيه الآن حثيثاً، ولسنوات طويلة، يولد في جَنَباته المزيد من أصحاب حقوق القوة، فدائرة جهنمية، نتذكر لِماماَ بدايتها، ونجهل تماماَ نهايتها.

في متن عقلنا، ثمة تصور للعلاقات بين الأطراف، أي أطراف كانت، فردية كانت ام سياسية، يقوم على القوة، لا على الحق. وهذه القوة ليست فكرية، أو إقتصادية، أو تنموية؛ واذا كانت من هذا الصنف، فلا يُتصور بأنها عادلة أو معتدلة، إنما جبارة قهرية، إضطرارية، مذلّة، مهينة. ولا مرة تكتسب شعبيتها لأنها تترجم حقاً، أو تدافع عنه. وثمة تفرّع لهذه الفكرة، خطير، يقول بأن لا قوة، إلا غاشمة ومسلحة، هي قوة تقتل. من هنا ذاك النجاح الملحوظ الذي يلاقيه كل من “داعش” و”حزب الله”، وسط بيئتهما المختلفة. تقديس القاتل الأكثر تمويلاً وتدريباً وتسليحاً وتنظيماً؛ أي الأكثر قدرة على القتل. طبعاً هناك من سيردّد معزوفة ان هذا التصور للعنف، القائم عندنا، مستورَد، وانه صنيع الإمبريالية والصهيوينة؛ وانه لولا عنفهما وظلمهما، لما كان عنفنا القاتل. والجواب، ان الشيء الوحيد الذي تمكنت منهما كل من الامبريالية والصهيونية هو خلق قضايا عادلة. أما الباقي، أي تحول هذه القضايا الى ذريعة للقتل، فمستمد من أعرق ثقافتنا. فالذي يحتاج إلى التغيير في هذه الثقافة هو تقديسنا للقوة، واقتصار تعريفنا للقوة على مهارة القتل، الجسدي عند التمكين، والمعنوي، قبله، أو بموازاته.

(المدن)

السابق
حليف ضروري ومتعب
التالي
تفاصيل مثيرة عن الكومندوس الأميركي في سوريا لاغتيال «أبو سياف»