الانتماء الوطني

هاني فحص

في اليوم الأول من عام 1976، كنتُ على تعب ونعاس شديدين وإحساس مُتدنِّ بالجدوى وشعور بفقدان اللغة، أشارك في احتفال جماهيري في مدينة صيدا، في ذكرى انطلاق الرصاصة الأولى على إسرائيل عام 1965. وعندما عتليتُ المنبر خلال وصادي إلا من الرغبة المُحتدمة بالتحرير السريع وكيفما اتفق، ولم أجد ما أقوله.
وبعد تلكؤ وتردُّد وجمل غير مفيدة وغير متصلة، استحضرتُ حماساً داهمني قبل أيام في المكان نفسه (حينذاك)، عندما كنتُ أصغي إلى خطاب قيادي لبناني تسلّم موقعه الأعلى في حزب قومي عربي (البعث)، منذ ثلث قرن ولم يغادره حتى الآن (وقتئذ) وحتى الآن أيضاً! هو ندَّد بالقيادة الفلسطينية المترددة والمتخاذلة، والمريضة بقطريتها الفلسطينية واستهتارها بالشأن القومي، ومراوغتها في التعاطي مع الأهداف القومية، وعدم مشاركتها الحاسمة في إسقاط النظام اللبناني لصالح نظام تقدمي.
ووجدت في مجاراة الرفيق فرصة لإنقاذ نفسي من الفراغ والعدم، ودائماً أو كثيراً – (حتى لا نظلم بعض حِسني النية وإن أساؤوا الفهم والتقدير) كان الشأن القومي العام المُبهم مهرباً من الشأن الوطني أو القطري، حسب التعبير الأخير لدى القوميين، الذي يبقى استعماله يذكّر بالماضي، من دون أن يعيِّن أو يشير إلى الحاضر، فضلاً عن المستقبل.
وهكذا أعلنت بصوت حاولت أن أجعله جهورياً، ولكن لم تسعفني حنجرتي لضعف عضويِّ فيها. فانقلب صراخاً حاداً مجروحاً، ولو كان جهورياً كما أحببتُ وقتها لأصبح قاتلاً والحمد لله على العافية. وأدنت بكلام لا يقبل تأويلاً حركة “فتح” على ما أقدمت عليه من مجاهرة في ميثاقها، من إلزام والتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للأقطار العربية، على رغم أن ذلك لم يكن دقيقاً.
وبصرف النظر – عن مدى انطباقه ذلك على الواقع، عرفت لاحقاً، أن كلاماً كهذا في لبنان، ولأسباب لبنانية، لا يمكن أن ينطبق على الواقع، فهناك قابلية لبنانية على لننة أي شأن قومي أو أممي، أي تنزيل لبنان قسراً على القومي أو الأممي.
وبعدما فرغت من إلقاء خطابي لاحظت في عيون الكثير من الأصدقاء المجرَّبين والمجرِّبين شيئاً كالعاصفة المشوبة بالحزن أو الشفقة من وقوعي في فخّ التبسيط الشديد. وبعدها بأيام، بادرني قيادي فلسطيني يساري، لم يلبث أن خفف من يساريته قليلاً، أعني بلال الحسن، بشكره لي بإسم فلسطين من النهر إلى البحر، على إخلاصي لها، ولكنه سألني بمحبة: ولكن ماذا عن لبنان ولبنانيتك والمشروع الوطني اللبناني الذي تحمله؟
ردَّني هذا السؤال إلى وعي فارقني مذ ودَّعتُ طفولتي، والمدرسة الابتدائية والنشيد الوطني صباحاً والرسم المتكرر للعلم والأرزة الخضراء، والإعجاب الشديد بمؤلف كتاب التاريخ الذي قال: “إن لبنان مشتق من اللبن، ببياض ثلجه، أو من اللُبان لرائحة أرزه وصنوبره وشيحه وسنديانه وملّوله”. وبقيت بين فترة وأخرى، بين تجربة وتجربة، بين كتاب وكتاب أحاول استعادة هذا الوعي أو إعادة تأسيسه على توسُّط واعتدال ووعي للتركيب في التكوين والانتماء الوطني.

(من كتاب على مسؤوليتي – منشورات صوت لبنان)

السابق
الجميل: الاجتماع مع وفد التكتل ايجابي وصريح جدا ولن أترشح لرئاسة الكتائب لولاية جديدة
التالي
فوز 9 أطفال لبنانيين في مسابقة UCMAS لتفعيل الطاقة الذهنية