أحذية نسائية …برسم العنف الزوجي

أن تمتلك المرأة في بلادنا أزواج أحذية كثيرة، فإن في ذلك دلالة على ترفها ورفاهيتها، غير أن تلك الرفاهية لم تمنع المرأة أن تقع ضحية العنف الزوجي مرات عدّة، ولطالما ضربت الزوجة بحذائها، فكان علوّ كعب الحذاء الذي تنتعله سببا لإصابة دامية تلخّص مأساة المرأة في بلادنا.

لا شيء يشغل بال العاملة الأثيوبية التي تأتي إلى منزلي أسبوعيا لمساعدتي في تنظيفه، مثلما تشغله أعداد الأحذية التي تملكها المدامات اللبنانيات اللواتي تدخل منازلهن للغرض ذاته.

هي لا تحسد أيا منهن أبدا، ولا تود التشبه بهن، رغم أن ما تجنيه من أموال شهريا، صار يسمح لها أن تمتلك ثروة من الأحذية المتواضعة، لكنها لا ترغب في ذلك، فاقتناء الأحذية لن يغير واقعها، ستظل عاملة منزل، خادمة، لن تتحول إلى سيدة، ليس فقط هنا، هناك أيضا، في بلادها، حيث الحصول على حذاء جديد مرتبط بالحصول على تأشيرة سفر للعمل في منازل المدامات.

تعتقد مساعدتي الأثيوبية أن اقتناء اللبنانيات لتلك الأكوام من الأحذية، له مدلولات حضارية، تعجز بلادها عن بلوغ مستوياتها.

لكنها لا تدري أن لبنان لا يختلف عن أثيوبيا في التصنيف الحضاري، كلاهما دولة عالم ثالثية، لذلك فإن مكانة النساء وقيمتهن فيهما متشابتهان. ومن المؤكد أن الأحذية الكثيرة التي تقتنيها المدامات اللبنانيات لم تغير واقعهن يوما، والكعوب العالية التي ينتعلنها لترفعهن عن الأرض قليلا، ليس بمقدورها أن ترفع شأنهن أبدا. عدا أن تحررهن من الخدمة المنزلية، عبر استعباد نساء من جنسيات أخرى، لم ينفعهن في الإفلات من أسر الرجل والمجتمع، أو بالحصول على حقوق عادية، صارت سمة حضارية في كثير من البلدان المتقدمة، وهن بذلك يتساوين مع مخدوماتهن اللواتي يعتبرن أنفسهن أقل شأنا منهن.

في عصور ما قبل التاريخ يسجل للمرأة براءة اختراع الحذاء، ويعود للمرأة الكهفية الفضل في تعرف الإنسان الأول إلى ضرورة حماية قدميه حفاظا على حياته وبالعكس. فقد نسجت المرأة الكهفية من ألياف الأشجار والنباتات وفرو الحيوانات وجلودها أول حذاء لزوجها، كي يحمي قدميه حين يخرج للصيد، ليس حبا به فقط بل حفاظا على أسرتها وعلى استمرار العرق البشري.

واكب الحذاء تقدم البشرية وتطورها وتمدنها، فتطورت بالتالي وظائفه، والأصح أنها انحدرت، فحاد عن معاني الحماية والحفاظ على الحياة والأسرة، ليصبح وسيلة عنف غب الطلب ضد المرأة. وقد يكون هذا الانحدار هو الذي أوحى لعدد من الرجال منذ أيام، بانتعال أحذية نسائية حمراء ذات كعوب عالية للتعبيرعن تضامنهم مع المرأة ودعمها في نيل حقوقها.

ليست وظيفة الحذاء هي التي تطورت فقط، بل إمكاناته، ففي الخرافة امتلك الحذاء قدرة على التغيير الدراماتيكي، وفي الوقائع المعاصرة والتاريخية تطورت مهاراته ليصبح التغيير تراجيديا.

تغيرت حياة سندريلا دراماتيكيا، حين قادت إحدى فردتي حذائها، الأمير إلى مكانها، فحررها من حياة الرق المنزلية. الثلاثة آلاف زوج من الأحذية التي اشترتها إميلدا ماركوس، على مدى سنوات حكم زوجها الديكتاتوري للفلبين، والتي أتاحت لها شهرة عالمية، وأفقرت شعبها في الوقت ذاته، كانت أحد أسباب الإطاحة بحكم زوجها للفيلبين. حياة شجرة الدر الحافلة بالانجازت الاستثنائية، انتهت بضرب القباقيب، ضربتها ضرتها أم علي زوجة عز الدين أيبك الأولى حتى الموت، الحذاء كان سببا بأفول حكم الأيوبيين لمصر وسطوع نجم المماليك.

أعود إلى فتاتي الأثيوبية المنبهرة منذ أتت، بأعداد الأحذية لدى المدامات اللبنانيات وألوانها وموديلاتها، أقول لها إن أزواج الأحذية توفر للأزواج عندنا، وسيلة سهلة للتعنيف، وللقتل أحيانا، فتغرق في الضحك.

أسترجع مشهد تلك المرأة على الرصيف أسفل المحكمة الشرعية، تهرب من زوجها وهو يلحق بها شاتما مهددا، فتتعثر وتقع أرضا وتفلت فردة حذائها، فيمسكها وينهال عليها ضربا. أستحضر قسوة اللحظات الأخيرة التي عاشتها نسرين ورولا وفاطمة ومنال وكريستال ورقية وسهير، قبل أن تقصف أعمارهن موجة غضب، أهي أكثر وهنا من حمل تسعة أشهر؟ أشد ألما من الولادة؟ أهي متعبة كالإرضاع والسهر والطبخ والغسيل والتدريس وشاقة كالصبر؟ لا أدري، لا يعرف حجم الألم إلا من عاناه.

أرى نفسي أتجول في بيوتهن، أزواجهن ينامون في أسرتهم بأمان، وأولادهن في العراء، أفتح خزاناتهن وأعد أزواج الأحذية فيها: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، عشرة، عشرون، خمسون، مئة….كل شهر تسقط امرأة في لبنان ضحية العنف الزوجي، وآلاف غيرها يعشن كل حياتهن ضحاياه، أحاول أن أجد علاقة تفاعلية ما بين اقتناء الأحذية وتسيد المرأة، بلا نتيجة، فأغرق في الحزن.

السابق
سماحة بريئاً وكنعان منتحراً وغزالة راحلاً: قصص موت معلن
التالي
سياقات معركة القلمون واحتمالاتها المستقبليّة: جاء دور عرسال