اللحظة التي انهار فيها «العالَم»

نحن في عشية العام 1177 قبل الميلاد. “العالَم” هو عبارة عن خمسة كيانات سياسية على ضفتي البحر المتوسط، الشرقية منها والغربية: اثنتان منها إمبراطورية، الفرعونية والحتّية، ومملكة اسمها “الميتانية”، تقع شرقي تركيا الحالية وشمالي نهر الفرات، ثم ما يشبه المملكات الصغيرة في اليونان، المقسمة بين يونان الجزر واليونان القارِّية، وأخيرا الكيشيون الذين يحكمون انطلاقا من بابل. بين أطراف هذا “العالَم”، تقوم علاقات وطيدة، متطورة، سالكة البحر والبرّ، تطال مختلف المجالات: من ثقافية وتجارية وفنية وديبلوماسية، فضلاً عن تبادل الهدايا الثمينة والنادرة، والزيجات بين أفراد عائلاتها الحاكمة، توطيداً لعلاقات سياسية قائمة بينها. انه عالم واحد، معولم بالإمكانيات المتاحة وقتها، متداخل، ومتفاعل، عمره ألفان وتسعمئة سنة، إذ عرف خطواته الأولى في العالم 3000 قبل الميلاد.

هذا العالم القائم بذاته، المكتفي بذاته، المعولم بوسائله، سمي بالعصر البرونزي، وها هو الآن يشهد لحظاته الأخيرة.
ما حلّ به ليس وليد ساعة، إنما أحداث ممتدة على عقود، بل على قرن؛ منها ما هو “طبيعي”، ومنها ما هو “بشري”. حصل أولاً تغير مناخي ملحوظ، أفضى إلى جفاف، تلتها مجاعات ضربت عمران المدن والبلدات، وهجرات متفاوتة الإتجاهات لأهلها. عرف هذا “العالم” أيضاً سلسلة من الزلازل، دمرت قصورا ومرافىء وبيوتاً. لم يكن زلزالاً واحداً، إبن دقيقة أو إثنتين، مع قليل من ارتداداته؛ إنما “إعصار زلزالي”، امتد على عشرات السنوات، والبعض يعتقد على امتداد قرن بأكمله. سبب آخر لهذا الإنهيار: الإضطرابات الداخلية، التي كانت ناجمة عن غضب سياسي، أو عن إجراءات إعتباطية اتخذها الحكام، كانت ظالمة إلى حدّ ان الأهالي ثاروا وتمردوا، ولم يجدوا لحركتهم هذه نافذة للخروج من الفوضى السياسية التي آلت إليها ثورتهم. أيضاً، حصل انهيار للبُنى المعتمدة (السيستيم)، فاختل عمل الإدارات المركزية واختفت الطبقة العليا التقليدية، وانهار الإقتصاد المركزي وتناقصَ عدد السكان. ما شجع على صعود طبقة جديدة من التجار أصحاب المصالح الخاصة، المناقضة لمصالح الكيانات السياسية هذه، فسقوط التجارة “الدولية” تدريجياً، على مدى قرنين من الزمن.
كانت العادة عند مؤرخي هذه الحقبة البعيدة من تاريخنا، وعصر البرونز من صميمه، أن يحمّلوا واحدة من الأسباب مسؤولية انهيار هذا عالمه. بعضهم رجّح احتمال المجاعة على غيرها، والآخر ركز على الزلازل، أو الإضطرابات الثورية، أو الإختلال البنيوي… فيما بقي سبب جديد قديم، عنوانه “ناس البحر”، وقوامه ان تلك الكيانات تعرضت طوال قرن من الزمن لهجمات غامضة، شرسة ومباغتة من رجال كانوا يأتون من البحر ويزرعون الموت والخراب على الشواطىء التي يطؤنها، ثم ينسحبون إلى عمق البحر المتوسط، متفلّتين من أي عقاب أو ملاحقة. ولكن أضرار “ناس البحر” لم تكن قاتلة، فيما كل الجهود الأثرية والتأريخية لاقتفاء أثرهم أو تحديد هويتهم لم تفضِ إلى نتيجة، ولا عُرف يوما “البحر” الذي ينسحب اليه “ناسه”؛ علما بأن رجال “العالم” البرونزي جالوه بسفنهم المصنوعة من خشب الأرز، وكانوا على علم بزواياه، المنْبسطة من شواطىء مصر وحتى شواطىء اليونان الحالية ، مروراُ بفلسطين وسوريا وتركيا الحاليات.
الجديد في كتاب الأميركي إريك كلاين “اللحظة التي انهار فيها العالم”، انه، وبواسطة علم الآثار وحده، تمكّن من إقامة فهم تقريبي لما حصل في تلك السنوات السابقة على الإنهيار، وأن يقترح فهماً آخر له، يختلف على ما درج عليه المؤرخون من قبله. وطريقة إريك كلاين نفهمها من أولى صفحات الكتاب، عندما يفنّد كل سبب من أسباب الإنهيار، ويبرهن بالآثار التي بقيت من هذه الكيانات كلها، بأن نهاية وجودها السياسي لم يكن له سبب واحد. حتى للقائلين بأن هذا الانهيار يعود الى “عدم تبصُّر” القادة الملوك والأباطرة بالأخطار المحدقة بهم، يزيحهم المؤلف عن عرشهم اليقيني. فما أفضت اليه نتيجة أبحاثه الأركيولوجية، وأبحاث غيره، ان “العالم” وقتها كان مركّباً، معقداً، متداخلاً، وقد امتدت المصائب التي عرفها على عقود، وكذلك انهياره؛ وعندما حانت ساعة الصفر، أي في العام 1177 قبل الميلاد، حصل مفعول “الدومينو” فسقط دفعة واحدة. بعده، عرفت منطقتنا سلطات جديدة وحضارات جديدة، اليونانيين الفينيقيين الفلسطينين النيو حتّيين… ليخلص إلى القول بأن صعود الإمبراطوريات وسقوطها، وما يليها من صعود لإمبراطوريات أكثر جدة، في وتيرة مكررة من الولادة والنمو والتطور والتراجع والدمار، ثم الصعود مرة أخرى… هو من قوانين التاريخ. الدائرة الخلدونية الخاصة بدورة القبيلة، تجدها هنا في تعبيرها الأضخم، ولكن الثابتة في دورانها حول الزمن، كأنها تبحث عن نفسها.
يلحّ إريك كلاين طوال صفحات كتابه على المقارنة بين عالمنا اليوم وبين “عالم” العصر البرونزي. فيستوقفنا، ويساعدنا على وضع المسافة اللازمة مع ما يحصل حولنا الآن؛ لعلّنا بذلك نأخذ نفساً أعمق لاستيعابه، وفهم تعقيداته الفائقة، من دون غشاوة الحقد والثأر المتحكِّمة بعقولنا… وتحليلاتنا.

(المدن)

السابق
اعتصام للمستقبل أمام المحكمة العسكرية الخامسة عصرا
التالي
رسالة شخصية إلى حبيب القلب الزعيم الكوري الشمالي