دفاعاً عن «موطني»

بعد تسعة عشر عاماً من الآن، أي في غمْضة عين، سيبلغ نشيد “موطني” المئة عام. فقد كتب كلماته الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان، ولحّنه الموسيقار اللبناني محمد فليفل، عام 1934؛ أي في خضم الأمل بأن كل ما كانت منطقتنا تشهده وقتها إنما هو مرحلة من الإستقلال، يطمح أبناؤها من بعدها ان يرفعوا رأسهم، ويبنوا أوطانهم ويحموا حريتهم، ويضحوا من أجلها بالغالي والنفيس. المئة عام من عمر هذا النشيد حفلت بأمور كثيرة لا ندركها كلها، تحتاج إلى من يبحث في طيات تاريخه، من ترحال متواصل…

 

فهو اعتُمد نشيداً وطنياً فلسطينياً، إلى أن استبدل رسمياً بنشيد “فدائي”؛ لكنه بقي شعبياً في وجدان الفلسطينيين، بصفته هو النشيد، نشيدهم. وبعد الغزو الأميركي للعراق، عام 2003، تبناه العراقيون بدورهم نشيدا وطنياً، لعلهم بذلك يستعجلون طرد الأرواح الشريرة للإحتلال… والأصوات التي نعرف أنها انشدته كثيرة. حتى اللحظة يمكننا حصرها بالفنان العراقي إلهام مدفعي، ومنشد اللطْميات العراقي الشيخ حسن الأكرف، والفنان الفلسطيني مراد السويطي، والشقيقتان السوريتان فايا وريحان يونان، ونجم “سوبر ستار العرب” محمد عساف، الشابة الأردنية سجى المعاصبة… وجمعيهم، على درجات موهبتهم وإحساسهم، اجتهدوا لإيصال النشيد من دون خيانة قصده. كل جهدهم كان منصبّاً على التسامي باحساسهم لبلوغ متن النشيد، تلك النسمة العاتية، العابقة بالحرية والعزة والحنين إلى أوطان تروح وتجيء، يأنس أصحابها لنسيم روحها، مع انهم غرباء عنها.

 

إلا الفنانة اللبنانية أليسا… فقد أصدرت مؤخراً شريطاً، “تغني” فيه “موطني”، فتلفت انتباه الجميع باستبدال الـ”ط” تحول بالـ”ت”، فكان المطلع ناشز اللفظ: “موتني موتني!”. ولكن هذا المأخذ المحق على “تخفيف” الـ”ط”، وجعله “ت”، ليس وحيداً، ولا منفصلاً عن بقية الأداء. فأليسا لم تكن أكثر حرصاً على نطق بقية الأحرف، في مقاطع النشيد المختلفة. ليس من باب صحة النطق أو عدم صحته، إنما من باب طريقة نطقه. فالنشيد الوطني الفلسطيني والعراقي، خزان الذاكرة الوطنية المشرقية، تحول مع أليسا إلى أغنية مائعة، بلا عصَب، ولا عواطف تناجيه وتنصهر في معانيه. بدت “ملكة الإحساس” في غنائها للنشيد وكأنها لا تحسّ معانيه، لا تفهمها، لا تحترمها. لا تحترم، ليس اللغة العربية وحدها، إنما روح هذا النشيد، وتاريخيته، وعمق تجذّره.

 

تطرِّب مقاطع مثل “مجدنا التليد”، أو “تبلغ السِماك”، أو “لا نريد… لا نريد”، كأنها تتدلع، كأنها تدعونا إلى عدم تصديق فحوى هذه المقاطع. يمكن القول، باختصار، ان تبنّي أليسا لهذا النشيد، الذي يكاد يبلغ القرن، هو واحد من المطبّات التي عرفها تاريخه الطويل، والحافل بالتأكيد، تلته عودة نهضات رفعته من جديد. وإلا ما كان ليعيش كل هذه العقود. ولكن المهم الآن ان أقوى ردود الفعل على غناء النشيد بأداء أليسا في الشبكة الإلكترونية، جاء من الشباب الفلسطيني، من خلال شرائط اليوتيوب. كانت كلها ردود فعل مرَّة ساخرة، وأذكاها ركّز على “موتني”، على “ت” بدل “ط”، فتساءل صاحبها إن كان سيردّ على الجندي الإسرائيلي الذي يقمعه بهذا النشيد على طريقة أليسا، فيفهم هذا الأخير انه ينشد بوجهه: “موِّتني… موِّتني!”، أي “اقتلني… اقتلني!”.

 

 

أما المتصدّون للدفاع عن أليسا، فرددوا المقولة اللبنانية الشهيرة “شو وقْفت عليّ؟”؛ أي ان البلد كله، المسؤولون والشعب، كلهم يعذّبون اللغة العربية عندما ينطقون بأحرفها، فلماذا الآن أليسا بالذات؟ “شو وقْفت على أليسا؟”. آخرون، من بين المتصدّين، كانوا “أقوى”: إذ لم يروا مانعاً في الخلط بين الإيحاءات الإيروتيكية الخاصة بأداء أليسا، وبين المعاني الوطنية التي تشدوها. فأصابوا بذلك الإثنين، أي الإيروتيكية والوطنية، بصفات الرخاوة والميوعة؛ فلا تسامت الوطنية، ولا اكتسبت الإيروتيكية جاذبية جديدة.

هكذا، أضافوا إلى الفوضى الذوقية والثقافية خلاعةً، تتجاوز ربما قصد أليسا نفسها؛ وهم بذلك يبيّنون ان اللوم لا يقع على أليسا وحدها، بل على ثقافة عامة، جماهيرية بالتأكيد، قبلت على نفسها أن تستبدل الرجولة التي تنطوي عليها كلمات النشيد، بالذكورة الفاقدة لعصَبها، والمرتمية في أحضان العبثية المستهزئة، التي لا تكتفي بالتشجيع على خلاعة النساء، بل تمدّ نفوذها إلى أناشيد هي من الموارد الثقافية القليلة المتبقية لنا.

(المدن)

السابق
وجهان لعملة واحدة: بطريرك ديني وآخر «تقدمي»
التالي
إيران في مأزق الأسد