التجربة الإيرانية

هاني فحص

أريد أن أتحدث عن تجربة ذاتيّة شخصية لها مدلولات وطنيّة.
ذهبت إلى طهران في العام 1982 مقيماً، وكنت ذهبت إليها من قبل مقيماً ومنخرطاً في ثقافتها وسياستها وإعلامها واجتماعها. ذهبت منتمياً إلى وطن عملاق لا حدود له، إلى وطن خرافيّ يشبه اللاّوطن، بما يعبّر عنه في الكوسموبوليتيّة وفي المصطلحات السياسية.
في طهران استيقظت على وطنيّتي استيقاظي على ضرورة الحياة والدور والمعنى والقيمة، واستيقظت على عروبة انتماء، لا على مشروع قوميّ عنصريّ مليء بالأوهام ومكشوف نظرياً وعملياً، كاستيقاظي على المعنى والمدى والأصل في مكوّنات الفرد والجماعة، وكادت عروبتي هناك أن تبلغ عتبة العصبية الضارّة حيال المشهد الإيرانيّ الوطنيّ المشوب بقوميّة فارسية أحياناً، لولا أني عجّلت في استعادة المسافة الضائعة متأثراً إلى حدّ الغيرة بما لمست من وطنية إيرانية.
وكانت غيرتي شروعاً في وعي جديد دشّنته بسؤال: هل كنت في مجافاتي ومفارقتي للوطنيّة اللبنانية والعروبة بانياً على أصل عقديّ وسيرة متصلة بأسلافي من علماء الشيعة وأئمة أهل البيت مثلاً، أم كنت حالة من حالات الفتوّة التي تنزع إلى التجريد والإطلاق والاختزال والتعميم الأيديولوجيّ، والتي يعبُر بها الشباب حدود المكان والزمان؟
وكان لا بد لي من أن أتلمّس أصولي، لأستولي عليها فرعاً لا يعاني الغربة عن مصادر النسغ والعافية، وكان لا بد لي من دراسة الشيعة كمتحد اجتماعي وكنصاب دينيّ وكجماعة سياسية مدنيّة تتحرك على مساحة الاجتماع الوطني اللبناني العام، مع تمايزات يقتضيها أي تنوّع في الوحدة في أي وطن من أوطان البشر. ودخلت في محاولة ترسيم منهجيّ بسؤال ومحاولة لتأسيس وعي معاصر مع ذاكرة منقّاة وسليمة. ودخلت في قراءة هادئة لوعي الأطراف المكوّنة للبنان مجتمعاً ووطناً ودولة بمواقعها وأدوارها وسياقاتها، التي ظلّت تنقطع وتتصل منذ التأسيس وحتى الآن، بعيداً من فرضية الرفض والثورية المستعلية او المستنكفة، كما من فرضية الواقعية المفرطة التي تجعل من الكيان مهرباً من رؤية الآفاق البعيدة.
إنّنا في بعض مظاهرنا، نبدو وكأننا نشرع في إرساء المعادلة على أساس نصاب منهجي، هو نصاب الحوار على قاعدة الاختلاف والتكافؤ بين الجماعة والجماعة، بين الدولة والمجتمع، بين الموالاة والمعارضة، بين المثّقف والعالم والقائد السياسيّ، سعياً لتحقيق التكامل في الوظيفة الأعلى من إقامة العلاقة والأطروحة على أساس جدل الحرية والضرورة.
إن ذلك يدخل في باب تحقيق الممانعة المرجوّة أمام الاستحقاقات الكبرى، ويمهّد لحركة تنموية شاملة للشأنين المادي والروحي على حد سواء.

(من كتاب على مسؤوليتي – هاني فحص – منشورات صوت لبنان)

السابق
جنبلاط في المحكمة: يسبح ويلهو بين جثث خصومه في النهر
التالي
الراي: إيران تبني حسينيّات في السويداء ومشايخ العقل يعتبرونها عدواناً