يوميات معتقل 15: عن خليل مشورب الذي رفع شارة النصر بوجه اسرائيل في المعتقل

سجن
خليل مشورب هو إبن الحزب الشيوعي ومؤسسه في الجنوب، هو الوحيد الذي تجرأ على رفع شارة النصر بوجه جنود الإحتلال، هو من رفع المعول والمنجل والقلم والشاكوش في أماكنهم الصحيحة. كان والد المعتقلين يدعوهم إلى استيعاب الهزيمة أولاً ومن ثم محاولة تحويلها إلى نصر، عاش منتصراً ومات منتصراً.

 

كان هو الذي تجرأ على رفع شارة النصر بوجه المحتلّين في تلك الشاحنة التي حملته وحملتنا إلى المجهول. من يجرؤ على رفع تلك الإشارة بتاريخ 13 تمّوز 1982، أي بعد الشهر الواحد تقريباً من السقوط الكبير؟ من كان يرى حينها نصراً في الأفق؟
فعلها “أبو زياد “… فعلها في الشاحنة التي أقلتنا من جرجوع إلى المعتقلات. فعلها بوجه الجنود والعملاء المختبئين وراء ستائر شبابيك المدرسة، فعلها رافعاً إصبعيه باتجاه السماء، كأنّه قال للقدر حينها بأنّنا نحن الأقوياء، وبأننا على حق!
عندما وصلنا إلى “الجورة” في العفّولة، أوقفونا ووجوهنا تلامس جداراً من الإسمنت. كنت أقف إلى جانبه عندما أمسك أحد الجنود شعره الشائب وضرب وجهه بقوّة على ذلك الجدار، ليسيل الدم بغزارة على وجهه المتعب. بقي الدم الجاف على تقاسيم وجهه لأيام وأيام، إلى أن استطاعت أشعة الشمس إزالته.

خليل مشورب المناضل الشيوعي منذ بداية شبابه والمعروف في أوساط مزارعي التبغ في الجنوب، وهو المؤسس لفرق الحزب في منطقتنا، العصامي الذي جمع الكادح والعامل والفلاح والمناضل والمقاوم والخلوق والناكر للذات والأب والمثقف الثوري في شخصه، لم يساوم لحظة على أي شيئ، رغم اعتقاله لأكثر من مرّة، في أنصار ومن بعدها في معتقل الخيام…
كان أبو زياد كبيرنا داخل تلك الأسلاك، بل كبير كل المعتقلين، إنّه الأسير المثالي. نعم هناك أسرى مثاليّون وأسرى لا يستحقّون هذا الشرف، الأسير المثالي هو من يحترم ويعرف حدود نفسه، بل ويدعو الباقين إلى استيعاب الهزيمة أولاً ومن ثم محاولة تحويلها إلى نصر، المعترف بهزيمته ليس متخاذلاً. المهزوم هو من لا يعترف بهزيمته ومن ثم يدّعي بأنها كانت نصراً مبيناً.
“أبنائي ورفاقي… عليكم بالصبر، أرجوكم الإنتباه إلى النظافة قدر الإمكان… أزيلوا فتات الخبز عن أماكن نومكم وثيابكم لأنه سيكون هدفاً للحشرات والفئران ” هذا ما أذكره من نص الرسالة الوحيدة التي أرسلها لنا أبو زياد من معسكره بعد فرزنا إلى معسكر آخر. كان يتابع كلّ التفاصيل بصمت غريب، كان ينجز كل شيء بتأن وصمت في حياته العادية، كما في داخل المعتقل، كما بتزويد شباب “جمّول ” بسلاح كان يخبئه في بيوت جيرانه أو في الحقول، بعد خروجه من المعتقل.
هو والدنا في الحزب والمعتقل كان يحمل كماً من الحزن لا يوصف، كان يحمل همّنا جميعاً: إبنه البكر “زياد ” ونحن أقرباءه وأبناءه في الحزب، في معتقل العفّولة كان بيننا، كانت عيوننا دائمة النظر إليه، نراقب ردة فعل عيونه على أي كلمة أو حدث في داخل الخيمة، علّمنا بأن الصمت في الأسر أبلغ من الكلام، وبأنّ على المعتقل أن يحترم يطأه، وبأن يكون حذراً في كل حركة يقوم بها أو كلمة تصدر منه!
إنتصر المرض على أبو زياد منذ عدّة أشهر، مات وهو يحمل هموم الوطن والحزب، وطن لم ينصفه وحزب مشرذم.
لو كان يعرف أبو زياد بأنّ قيادة الحزب الذي كان من أهمّ مناضليه ومن أوّل مؤسسيه في الجنوب، لم تحضر لتكريمه بعد وفاته لكان خرج عن صمته الجميل ليقول الكثير الكثير… الحزب الشيوعي اللبناني عند خليل مشورب كان كلّ شيء، كلّ الأمل، كلّ الثقة بالمستقبل كلّ الحب وكلّ الحياة… هو من رفع المعول والمنجل والقلم والشاكوش في أمكنتهم الصحيحة.
هو الوحيد الذي تجرأ على رفع شارة النصر في مكانها الصحيح، اسألوا عنه نسوة جرجوع الثائرة أمام الملالات والشاحنات!
هو من كان يعرف معنى الهزيمة والنصر… لذلك عاش منتصراً ومات منتصراً”.

السابق
الخليجيّون والإيرانيّون في واشنطن… أوباما يُفصّل الأدوار ويُحدّد المواقع
التالي
التقرير الاسبوعي لحملة سلامة الغذاء