مات متأثراً بجراحنا

نديم قطيش

مات رستم غزالة. العنوان الأوضح لانحطاط العلاقات اللبنانية السورية ما عاد يشاركنا الهواء الذي كان يحصي انفاسنا منه. هذا خبر جيد بحد ذاته. عالم بلا غزالة هو عالم أفضل بالتأكيد.

لكن ثمة ما هو اهم في خبر رحيله. موته لم يطوِ صفحةً من صفحات النظام. كان يمكن ذلك او انه قتل على أيدي لبنانيين او سوريين من أنصار الثورة على نظام الاسد،اباً وابناً. ما حصل ان موته كان الموت العلني للنظام نفسه الذي أنتجه. موت الوريث الرديء، بشار الاسد، للنظام الرديء، نظام حافظ الاسد. موت واضح للحالة الاخيرة التي استوت عليها سوريا. لتركيبة تأكل نفسها.
قتل النظام رستم غزالة. لا تهم الأسباب. اكانت وطنية سورية مفاجئة استفزتها الهيمنة الايرانية على ما بقي من قرار في سوريا. او كانت شبهات بان يأوي الرجل الى المحكمة الخاصة بلبنان، شاهداً محمياً بنظام حماية الشهود. او ان الرجل بات عبئاً بسبب ما يحكى عن انهياره عصبياً وسكره الدائم في الفترة الاخيرة، وما قد تنتجه هذه الحالة من انفعالات وتسرب خطير للمعلومات والمواقف. كل ذلك هامشي في تفاصيل الحدث، الذي سيظل ان النظام قتل أفضل منتجاته. رستم غزالة هو الممثل الحقيقي لسوريا الوريث. لا يشبه سلفه غازي كنعان. لا يشبه رجالات النظام الموروث، كعبد الحليم خدام او حكمت الشهابي. لم يقِّل هؤلاء في نوازعهم واستعداداتهم وأفعالهم اجراماً عن رستم غزالة. ولا يقلون عنه كرهاً للبنان. ولا هم اكثر تعففاً حيال الفساد الذي علمهم لبنان فصولاً جديدة فيه، باعتبار الطبقة السياسية اللبنانية قادرة على افساد القديسين قبل البشر، دعك عمن هي أنفسهم أمارة بالسوء أصلاً.

 

مع سابقيه كان في سوريا، الى جانب الفساد والطغيان والجريمة، شيء من السياسة والكثير من الاستراتيجيا او من أوهامها على نحو ادق. مع رستم، نحن امام انعدام السياسة. انعدام لكل ما ينتج عن التوهم الاستراتيجي السوري ايام حافظ الاسد. انعدام الدولة، وهي في سوريا نتاج هذا الوهم الاستراتيجي، بأن سوريا اكبر من المشرق ما لم تكن اكبر من العرب مجتمعين. مع غزالة، سوريا بشار الاسد مجرد عصابة. حفنة من القتلة، بلا اي ادعاء سياسي او استراتيجي حتى. بلا اي قناع او استعارة.

انحلال كامل لكل ما بناه حافظ الاسد، وان كان من حسن حظنا انه انحل، وان وريث الأب لم يكن إبناً باراً يحمي التركة الأسدية. ستبقى في الذهن صورتان لضباط الامن السوريين في لبنان او ولاته. صورة مفتاح بيروت يهديه الرئيس الشهيد رفيق الحريري لغازي كنعان قبل خروجه من بيروت عام ٢٠٠٢. وصورة بندقية المقاومة يهديها امين عام حزب الله حسن نصرالله لرستم غزالة قبل خروجه، وخروج سوريا الاسد معه من بيروت عام ٢٠٠٥. الصورتان تمثلان انكسار الإرادة اللبنانية أمام سوريا الاسد. والصورتان ستبقيان في خانة ما يصعب الاعتزاز به. مع ذلك فالفوارق بينهما مهمة.

حين اهدى الحريري الأب غازي كنعان مفتاح بيروت كان يذكر الاسد عبره ان للمدن أبواباً ومفاتيح. وبخليط من المداهنة والسياسة والمكر كان يقول له انه ليس ضد سوريا، وان لبنان مفتوح للشام طالما ان أهله يقررون ذلك، بإرادتهم، وان اكتفوا من الإرادة بصورتها. بما يحفظ لهم ماء الوجه وبعض الكرامة.

وكان يسعى للقول ان الدولة اللبنانية، بالجملة، تعطي سوريا ما ليس بامكانها اخذه بالمفرق عبر علاقاتها مع القوى السياسية، ضمن طموح رفيق الحريري الدائم “لتصويب” العلاقات اللبنانية السورية من دون كسرها بين يديه. كان لا يزال ثمة متسع لخداع الذات بان هذه العلاقات، تنتمي الى فصيلة ما يمكن تطويره وتحسينه والبناء عليه. لم يكن مضى اكثر من سنتين على تسلم الوريث، ولعب الحريري دوراً في تقديمه للمجتمع الدولي، عبر فرنسا. اما حين اهدى نصرالله بندقية المقاومة لغزالة فكان يصعد بهذا المشهد درجة إضافية، بل درجات، على سلم الاعتداء على بقية اللبنانيين بعد اغتيال رفيق الحريري.

ستكشف الأيام لاحقاً عبر مجريات المحكمة الخاصة بلبنان وبعض التطورات الميدانية ان بندقية المقاومة، هي ما وُجِه، قبل الإهداء، الى رأس رفيق الحريري، وهي ما وُجِه بعد الإهداء، الى صدور اللبنانيين من سمير قصير الى محمد شطح!

تسلم رستم غزالة من نصرالله الاداة التي يحسب انها الوحيدة التي تناسب العلاقات بين البلدين. تسلمها في لحظة انهيار اي شكل آخر من شكل العلاقات المُحتملة بين لبنان وسوريا.
فشلت صورة كنعان- الحريري وربحت صورة غزالة-نصرالله في التعبير الدقيق عن العلاقات بين البلدين، او عن استحالتها على نحو أدق. ولهذا تستحي المقاومة بالاحتفاء به ويُنتدب من يتنصل منه في الاعلام، كتابة وتصريحاً. قوة رستم غزالة في حياته كانت وضوحه. قاتل معلن. ضعفه في موته هو وضوحه ايضاً. فالقتلة لا يُهابون وهم جثث هامدة، ولا يجدون حتى بين الأقربين من يرغب في اي صلة معهم. تخجل به المقاومة لانها تعلم ان الرجل مات متأثراً بجراحنا كلبنانيين. مات لان النظام ما عاد قادراً على ابتلاع دمنا ولحمنا اكثر. لهذا جاء اغتياله محملاً بالرموز والمعاني.

احسب ان رستم غزالة هو النظام في انحطاطه الاخير. وحين يقتله النظام فهو كمن يرمي حجراً في الماء ليمحو انعكاس صورته. نرجسية مقلوبة. انتحار بالوكالة. مات رستم غزالة. مات نظام الاسد.

(المدن)

السابق
مؤشرات إلى تورط إسرائيلي في قصف مواقع صواريخ سورية فجر أمس
التالي
إيران من الداخل