ما بين المفاوضات والمثالثة والجنون

الحرب في اليمن راكمَت مزيداً من التعقيدات على العلاقة بين البلدين، الحافلة بالعَداء والتناقضات، لكنّها في الوقت نفسِه فتحَت آفاقاً جديدة يمكن أن تشكّلَ مسالك إيجابية.

يمكن القول إنّ تنظيم «القاعدة» ربحَ كثيراً من الحرب التي عصفَت باليمن: إستولى على أسلحة نوعية كثيرة، استقطبَ العديد من الشبّان وحاز على عطفِ شرائح شعبية واسعة تُعاني من الإحباط. ما يعني أنّ الخطرَ ازداد على المصالح الغربية الحيوية في اليمن، بما فيه المصالح البحرية والممرّات الآمنة لناقلات النفط العملاقة.

ولا تنحصِر المخاطر هنا فقط بل إنّ وجهةَ عمل «القاعدة» تبقى على الدوام الداخل السعودي، أضِف الى ذلك أنّ الفصيل الأكثر تطرّفاً والذي وُلِد من رحِم القاعدة، أي «داعش»، باشَر عملياته في السعودية محاوِلاً استباق «القاعدة». لذلك ولأسباب أخرى، لا بدّمِن هدنة عسكرية تسمَح بالتقاط الأنفاس وإعادة ضبط الميدان.

سَلطنة عمان مهَّدَت جيّداً ولا تزال للتفاوض، حتى مصر لعبَت دوراً مساعداً في هذا الاتّجاه على رغم حساباتها الخاصة التي تَختلف جَذرياً عن حسابات غيرها من الدوَل. وروسيا سلّفَت السعودية في مجلس الأمن، ما يدفع للاعتقاد أنّ الرياض ستردّ لموسكو التحيّة بالمِثل، ربّما في الاقتصاد الروسي الصعب.

واشنطن تُمهّد لكلّ ذلك عبر ترتيب المسرح. هناك أثمان يجب أن تُدفَع مقابل قرارت مجلس الأمن، ولكن في الوقت عينه هناك حاجة لقوات علي عبدالله صالح والحوثيين لضرب «القاعدة» لاحقاً.

والواضح أنّ واشنطن تتّجه لزرعِ قواعد لها في النقاط التي تشَكّل أهمّية استراتيجية لمصالحها، على أن تتولّى خزينة الخليج تمويلَها. كما أنّها متحمّسة لإعادة توزيع السلطة في اليمن عبر اقتسامِها ولاحقاً تكريس سلطة فدرالية.

على طاولة التفاوض ستكون سوريا حاضرةً لجهة أنّ أيّ تنازلٍ في اليمن يقابله مكسَب في سوريا، والعكس صحيح. لكنّ السعودية تريد إدراج لبنان في موازاة ملفّي اليمن وسوريا، وهي كانت مهمّة الرئيس سعد الحريري في واشنطن والتي يبدو أنّها حقّقَت نجاحاً. لكن مِن المبكر إبداء التفاؤل المطلوب، ذلك أنّ الخريطة الميدانية التي تحفَظ المصالح التي تسعى إليها القوى الكبرى لا تزال غيرَ جاهزة.

من هنا يمكن وصف الواقع اليمني حالياً بالهدنة، ومن هنا أيضاً تعيش سوريا معارك بالغة الدقّة والأهمّية، ومن هنا أخيراً المنعطف الحاد الذي يَنتظر لبنان.

في سوريا نجَحت المعارضة في السيطرة على جسر الشغور، وبالتالي تهديد المناطق التي تشَكّل العمقَ الحيوي للنظام. في المقابل تكاد تحضيرات الجيش النظامي ومعه «حزب الله» تشارفُ على نهايتها للانقضاض على حلب، وبموازاة ذلك باشرَت هذه القوات معركة السيطرة على جبال القلمون بشكلٍ «ناعم» وبعيداً عن الضجّة الإعلامية.

لكنّ استهداف الطائرات الإسرائيلية مواقعَ القلمون يَحمل في طيّاته رسائلَ بليغة. البعض يقول إنّ إسرائيل تريد إقراراً بشريطِها الحدودي جنوباً لتسمحَ باستكمال الشريط الحدودي للنظام مع الحدود اللبنانية.

كما أنّ الجيش السوري ومعه إيران يريدان السَيطرة على كامل حلب، وهي المنطقة التي تعتقد تركيا أنّها تقع في عمق مصالحها ونفوذها، ربّما بهدف
المبادلة لاحقاً مع القسم المقطوع من الطريق البرّية التي تربط العراق ومنها إيران مع دمشق ومنها جنوب لبنان.

أمّا في لبنان، فالعَدّ العكسي لزَوال الحكومة يبدو أنّه بدأ. وممكن أن يكون العَدّ قصيراً ويَنتهي مع التمديد للقادة الأمنيين، أو ممكن أن يكون أطولَ بقليل وينتظر ملفّاً خلافيّاً آخر، إلّا إذا أسرعَت واشنطن وطرحَت تسوية مع طهران، وهو ما يراهن عليه الحريري بعد زيارته لواشنطن.

الحريري بحَث مع مسؤولين أميركيين استحقاقَ قيادة الجيش من كلّ جوانبه والآثار المترتبة عليه. وقيل إنّ هؤلاء المسؤولين شَجّعوا في اتّجاه حصول تعيينات جديدة، وان الحريري بدا أكثرَ مرونةً تجاه ذلك، لكن من خلال تسوية شاملة تطاوِل ملفّ الاستحقاق الرئاسي أيضاً وعناوين المرحلة المقبلة. لكن إذا رفضَ العماد ميشال عون فهذا يَعني أنّه سيَخرج من الحكومة.

وخِلافاً لاعتقاد العديد من الأطراف، فإنّ «حزب الله» متفاهِم مع عون على أنّه وفي حال خروجِه من الحكومة، سيَخرج الحزب معه وسيَتبعه النائب سليمان فرنجية وحزب «الطاشناق» وستُصبح عندها الحكومة غيرَ موجودة.

«حزب الله» يُدرك جيّداً أنّ هذا الوضع يعني الدخول فعلياً في مرحلة المؤتمر التأسيسي، وقد يكون كلام الرئيس نبيه برّي عن حلّ مجلس النواب إشارة تحذير من الاتّجاه الذي تسلكه الأمور.

المهِمّ أنّ تحَلّلَ الدولة اللبنانية سيأتي وفق أسباب داخلية، لكنّه سيكون وفق حساب وتوقيت إقليمي بامتياز للوصول الى المؤتمر التأسيسي والدولة الجديدة القائمة على المثالثة. ولكي لا نكون سُذَّجاً فإنّ الحسابات الحقيقية القائمة في الكواليس الآن إنّما تستند إلى هذه الصورة.

إحدى الشخصيات السياسية التي تدفَع في اتّجاه الذهاب في المواجهة إلى الآخر، تقول إنّ المثالثة تبقى حَلّاً ممتازاً كونها على الأقلّ تمنح المسيحيين حصّةً صافية لا يشاركهم فيها أحد.

نظريّاً الكلام صحيح، لكن عملياً فإنّ الواقعَ مختلف، كون المؤتمر التأسيسي يَحصل في ظلّ نظام إقليمي جديد تتولى فيه إيران موقعاً متقدّماً. ومِن المنطقي أن تسعى لزيادة حصّتِها، وستَعمل كلّ مِن تركيا والسعودية لحماية مصالحِهما، فيما المسيحيون الذين ليس لديهم راعٍ إقليمي حقيقي قد يجري تقاسُم مواقعِهم… واتّفاق الطائف لا تزال دروسُه حاضرة.

تماماً كالذي يَعمل على كسر وإغراق الباخرة بسبَب سوء الخدمة فيها، ليُكمِلَ رحلتَه في زورق النجاة، وهو موجود وسطَ المحيط بأمواجه العاتية، والتاريخ لا يَرحم.

(الجمهورية)

السابق
الدافع الأمني كقاطرة لتقدّم إسرائيل الشامل
التالي
10 أعوام… ولم يُعثَر على الصندوق الأَسوَد