سليمان تقي الدين الشاهد ضد مَفْسَدَةٍ ثلاثيّة

سأفتقد بعد اليوم ذلك “الرصيد” الصديق الذي يحمل اسم سليمان تقي الدين. إنه رصيد من الود الثابت لا تبرِّده الانقطاعات الطويلة. ورصيدٌ من التضامن الذي أصبح بحكم المعرفة الطويلة تضامناً تلقائيا على “قضية” بل قضايا نتّفق عليها جيدا من دون أن نسمّيها؛ وفي السنوات الأخيرة من دون أن نتحدّث عنها. وأكاد أقول أنه أصبح، أو كاد، تضامناً على قضية لا نعرفها تحديدا!

أعتقد، من دون مبالغة، أنني لست وحدي من معارف سليمان تقي الدين الذي لديه معه هذا الود التضامني الدائم على موضوعات أكيدة لا تحتاج إلى تسمية. بل هناك عديدون مثلي.
بالتأكيد نحن من جيل الحرب. ولكن بالتأكيد كان الشيخ سليمان من أكثر الذين نجحوا في العبور منها وفيها نظيفاً على المستوى السلوكي العام في زمن كان المعيار الشخصي للسلوك السياسي يتدنّى على كل المستويات بل يغيب في حسابات العلاقات العامة والخاصة. وأقول بكل ثقة، ولو أني مراقب برّاني لتجربته، أن سليمان تقي الدين ابن بعقلين الأصيل كافح منذ بداية الحرب الأهلية عام 1975 لكي لا تسحقه حياتيا هذه الحرب وكافح بألمٍ أعمق لكي لا يسحقه معيشيا سلامُ ما بعد الحرب. قال لي مرة في بيتي في بيروت إنه مضطر للكتابة في الصحافة لكي يؤمِّن مدخولا إضافيا على مهنته كمحامٍ بسبب مسؤولياته العائليّة الخانقة. من هم دون سليمان تقي الدين كفاءةً وثقافةً والتزاماً من كل جيل الحرب ومن كل الطائفيات حقّقوا ثرواتٍ من دخولهم شبكات الفساد والزبائنية السياسية.
كان مثقفا يكافح، لا لكي يبقى على قيد الحياة، فهو “رجل شبعان” كما يُقال حتى لو كان ذا إمكانات محدودة، ولكن لكي يبقى على قيد الكرامة الشخصية في الشأن العام الذي كان شغله الشاغل تفكيرا وإنتاجا وحضورا.
لا أحب الكلام الفارغ في النعي. لست شغوفا بكتابات النعي أصلاً. ولكن في حالة أمثال سليمان تقي الدين يتحوّل الموت إلى تفكيرٍ بغنى التجربة الفردية وبمعضلة النزاهة في العمل العام.
نعم النزاهة هي معضلة في بلداننا المتخلّفة والمتراجعة.
الفساد قصة طويلة في اليمين اللبناني التقليدي الحاكم وتحوّل بعد الحرب إلى فساد وحشي وأنتج طبقةً أكثر فسادا بل وقحة في الفساد إلى حد النهب المكشوف، مع التذكير الضروري بوجود استثناءات يظلمها التعميم. وكنتُ أقول دائما أن الفارق بين أشخاص الطبقة الجديدة هو أنهم صنفان: صنف النهب البدائي، يمد يده إلى جيبك وينشل ما فيها أو يصادره، وصنف النهب “الحداثي” المبني على ابتكار وتطويع القوانين.
أما الفساد في الوسط اليساري اللبناني فهو بشكلٍ عام ونسبي قصة حديثة زمنيا، لا شك في أن الحرب عام 1975 هي “بدايتها” الكبرى. لأسباب كثيرة نمت ظاهرة الفساد والوقاحة في الفساد في أجواء اليسار اللبناني تحت وطأة تدفّق أموال الحرب إلى بيئة باتت لها سلطة ومواقع سلطوية تستدعي المال المحلي والعربي لم تكن لها سابقا. شهد سليمان تقي الدين وكان شاهدا على تفاقم الفساد في بيئة عقائدية. وكانت الصدمات على أمثاله من الكوادر الكثيرة في الأحزاب أقوى من غيرها لأن المعايير في البيئة العقائديّة أكثر حضورا و”مثالية”. لكن سليمان تقي الدين بقي مثل عدد كبير من العقائديين خارج هذا النمو السرطاني للفساد الذي كان يُحْكِم ويُكْمِل تحويلَ ثقافة المجتمع اللبناني إلى ثقافة فساد. كان سليمان، باختصار، أحد أولئك الذين يقال عنهم ” مسكين ما عِرِف يدبِّر حالو” كما هو شائع. في وقت لم يكن ينتشر فيه فقط، كما في كل الحروب، نمط من الحثالات الاجتماعية والأخلاقية تصبح “نجوماً” على صفحات الصحف، بل أيضا اتساع عدوى الفساد في النخب.
دعوني أشدِّد هنا على أمرين يجب التشديد عليهما: الأول هو أن الكثير الكثير من النخب اللبنانية من كل الاتجاهات لم تدخل في الفساد الكبير على وزن “الجهاد” الكبير و”الجهاد” الأصغر! وأمر ثانٍ لا أجد أنسب من مأتم الراحل سليمان تقي الدين لقوله وهو التالي:
مهما كان الفساد مخترقا كل الأوساط فإني أشهد، وأنا لستُ شيوعيا ولم أكن يوما كذلك، أن بعض أشرف وأنزه من عرفتهم هم من الشيوعيين. وأنا متأكِّد أن هؤلاء “الملحدين” يملكون رصيدا أخلاقيا لا يملكه بعض رجال الدين من طوائف مختلفة في هذا الزمن الأصولي التكفيري. بين رجال الدين من كل الطوائف أفاضل كثيرون ولكن بين الشيوعيين، بل أغلب كوادرهم، رغم فضائح البعض المحدودة في الحرب، من هم من الذين تستطيع أن تأتمنهم، بينما هناك عمائم وقلنسوات غير مؤتمنة أخلاقيا مقابل طبعا الكثير من العمائم والقلنسوات العفيفة.
كان سليمان تقي الدين في طليعة هذه البيئة المؤتمَنة ضد مفسدة ثلاثية الأطراف أو ثلاث مفاسد يمينيّة ويسارية ودينية.
وداعاً أيها الشيخ الماركسي أو أيها الشيخ وأيها الماركسي.
أيها المثقف النقدي الذي صارع التفاصيلَ بالكلّيات وصارع الكلّياتِ بالكليّات.
سأفتقد صوتكَ الرخيم المنبعث من ينابيع الجبل التي لم تتلوّث وسأفتقدك رصيدا في كل طائفةٍ ومنتدى. ومضطرٌ أن أقول بلغة هذه الأيام أنكَ رصيدٌ لا درزيٌ فقط بل شيعي وسنّي ومسيحي. وبلغة أسلم أنت رصيدٌ لبناني وسوري وفلسطيني بل وعربي.
أعزّي الذين أحبّوك وهم كُثُر والذين قدّروا قيمتك النخبوية وهم كثر، والذين لم يُنْصِفوك وهم قلة لكنّ خطأَ هؤلاءِ الأخيرين بالغٌ وأكاد أقول لا يُغتَفر.

(النهار)

السابق
محنة الخليج مع المهدي المنتظر
التالي
نهرا قبل استقالة الغزال وحدد الخميس المقبل موعدا لانتخاب خلف له