«جبران خليل جبران» لنديم نعيمه: يكفي العبث بأحلامه وسطوره!

يتساءل المرء، ساعة يقع نظره على كتاب “جبران خليل جبران – المؤلفات الإنكليزية الكاملة معربة” الصادر عن “دار نوفل” للدكتور نديم نعيمه، هل من جديد في كتاب نديم نعيمه، علماً أن بعض مَن نقل “النبي” إلى العربية أدباء كبار مثل ميخائيل نعيمه ويوسف الخال، وآخرين، نذكر منهم الأرشمندريت أنطونيوس بشير، وسركون بولص، وثروت عكاشة، ويوحنا قمير، وجميل عابد، وعبد الكريم عجير، ونوئيل عبد الأحد؟

يقول الدكتور نديم نعيمه عن سبب تعريبه أعمال جبران: “إنه السبب عينه الذي حمل ميخائيل نعيمه سنة 1956 على تعريبه النموذجي لكتاب “النبي”. ويضيف: “لقد شقّ عليه (أي على ميخائيل نعيمه) أن جبران الذي عرفه واستمع إليه في صومعته النيويوركية يقرأ عليه إنكليزياته، هو غير جبران الذي يُقدَّم إلى الناس في بلاده معرّباً، فآثر أن يوطنه ولو من خلال أثر واحد؛ أقلّه من خلال الكتاب الأهمّ الذي قامت عليه شهرته، لا في الأقطار الأنلكوساكسونية وحدها فحسب، بل في سائر أقطار العالم، وهو كتاب النبي”.
إذا كان الدكتور نديم يعتبر الترجمة العربية لكتاب “النبي” التي وضعها ميخائيل نعيمه نموذجية، فلماذا عرّب “النبي” من جديد، وبلغة لا تقارن في نظري بلغة ميخائيل نعيمه، المسبوكة بجماليات التطرية الفنية، والفهم العميق لروح جبران وأحلامه وخيالاته، وإيمانه بأن الموت ليس إلا ولادة أخرى، واعتقاده الراسخ بعالم اللامحسوس والوحدانية الشاملة، القيم التي آمن بها ميخائيل نعيمه نفسه، وكتب فيها أجمل الفصول، وجسّدها أعظم التجسيد في كتابه الشهير “مرداد”؟!
نقتطف على سبيل المثل، فقرة من كتاب “النبي” تظهر طبيعة الترجمة عند ميخائيل نعيمه، ونظيرتها عند الدكتور نديم، وهي الكلمات التي يخاطب فيها المصطفى البحر، لحظة أذنت فيها ساعة رحيله عن أورفليس. ولو أردت أن أجاري هوايَ لنقلت الكثير من الفقرات التي تظهر الفارق بين الترجمتين، لكن المجال هنا لا يتسع. وأترك القارئ الكريم ليفاضل ويرى.
ترجم ميخائيل كلمات المصطفى للبحر على هذا النحو: “وأنت أيها البحر الشاسع. يا أيتها الأم الهاجعة، فيك وحدك السلام والحرية للجدول وللنهر. سيدور هذا الجدول دورة بعد، سيهمس بعد همسة في هذه الغاب، ومن بعدها سآتيك قطرة لا تحد، إلى محيط لا يحد”.
وهاكم ترجمة نديم: “وأنت أيها البحر الرحيب والأم التي لا تنام. أنت وحدك واهب السلام والحرية للنهر والجدول. فقط انعطافة أخرى سينعطفها بعد هذا الجدول. فقط كركرة بعد أخرى له في هذا المدى، ثم أنضم إليك قطرة بلا حد إلى محيط بلا حدود”.

أساء الدكتور الترجمة في هذه الفقرة البسيطة ثلاث مرات، إلى الحد الذي يحملنا على الظن أنه ربما يكون قد أساء في كثير من المواقع، لكننا نكتفي بالفقرة المذكورة أعلاه، فنرى أنه أخطأ في تعريب عبارة sleeping mother بـ”الأم التي لا تنام” في حين أن العكس هو الصحيح، أي الأم النائمة، أو الهاجعة.

أخطأ أيضاً في كلمة glade وترجمها المدى، في حين أن المعنى الصحيح هو الغابة التي فيها تجري الجداول والأنهار، كما ترجم الفعل murmurبالكركرة، في حين أنه الهمس أو الهفيف. أما الكركرة فتعني الضحك الشديد، أو الصوت العالي، وقد تعني، كما في قواميس اللغة، الصوت الجوفي، لكن في حال واحدة فقط، وهي الكركرة في البطن!
وإذا تخطينا الترجمة الحرفية، نجد الدكتور نعيمه قد قصر تقصيراً فاضحاً في فهم عالم جبران المؤمن بالتصوف وعقيدة التناسخ ووحدة الوجود. فحين يخاطب المصطفى البحر بالأم النائمة، يعني أن البحر هنا هو الروح الكلية السرمدية التي تحنّ إليها النفس الباحثة عن الإنعتاق من عالم المادة إلى عالم الروح الذي لا يُحدّ، أي عودة الجدول والنهر إلى المصب الأخير، البحر الذي منه أتيا، الأم النائمة الساكنة الهاجعة، لا “الأم التي لا تنام”، التي تبدو في تعريب الدكتور نديم وتعبيره، أماً متوترة قلقة، لا يريد أحد من أبنائها أن يلوذ إليها أو يعود!
في المقدمة لكتاب “التائه” في الصفحة 633 يقول الدكتور نديم “إن جبران الذي تحول في مطلع الثلاثينات من عمره إلى الإنكليزية كوسيلة للتعبير عن نفسه، لم يصدر طوال هذه المرحلة الأخيرة من حياته، مرحلة الرجولة والاختمار والنضوج، أي مؤلف باللغة العربية”.

لو راجع الدكتور نديم كتاب عمّه ميخائيل عن جبران لوجد فيها رواية “ملك البلاد وراعي الغنم”، التي كتبها جبران بالعربية وكان مقدَّراً لها أن تنشر في جريدة “السائح” أوائل 1931، لكن “السائح” سبق جبران إلى “الدار الثانية” ببضعة شهور، فنشرها ميخائيل في كتابه المذكور، ما يؤكد أن جبران كتب بالعربية بعد “العواصف” الذي صدر في 1920، بخلاف ما قاله الدكتور نعيم من أن جبران لم يكتب بالعربية بعد هذا الكتاب.

المعروف أن مؤلفات جبران الإنكليزية كانت ترجمت إلى عربية اعتادها الناس وتقبّلوها وحفظوها، وقد ترجمها الأرشمندريت أنطونيوس بشير الذي عاصر جبران يوم كان جبران لا يزال في قيد الحياة. يعترف الدكتور نعيمه لبشير “من فضل وحق سبق في نقل جبران الإنكليزي إلى لسان بني قومه” لكن طموحاته، أي طموحات بشير، وفق قول الدكتور نديم، “كانت على ما يبدو أوسع واضخم من إمكاناته، فلا هو استطاع أن ينفس في لغته نسمة من الروح الشعرية والجرس التوراتي في لغة جبران، ولا استطاعت مقاصد الشعرية الروحية في مؤلفات جبران أن تنفذ متكاملة إلى الارشمندريت وأن تتجسد”! في اعتقادنا ان في هذا الوصف تهمة ظالمة، علماً بأن جبران كان معجباً “بحماسة وعزم” بشير في الترجمة، كما جاء في رسالة له إلى ميخائيل نعيمه مؤرخة في 11 آب 1923 وفيها يقول جبران إنه صرف الساعات الطوال مع الأرشمندريت بشير في مراجعة “السابق” و”المجنون”.

وفي كتاب “جبران خليل جبران – شواهد الناس والأمكنة” للشاعر هنري زغيب يقول أندرو غريب إن ميخائيل نعيمه سأل جبران رأيه في ترجمات الأرشمندريت أنطونيوس بشير العربية لمؤلفاته، أي مؤلفات جبران الإنكليزية، فكان جواب جبران “ليكتب بشير كما شاء، وكيف ترجم ستكون روحي فيه”. وهذا دليل إن لم يكن قاطعاً، يوحي بأن جبران كان راضياً عن ترجمات بشير، الفاهم لغة جبران، وما يكتنفها من خيالات أثيرية قيثارية وشاعرية روحية.

كان الأولى بالدكتور نديم، وقد عايش ميخائيل نعيمه عشرات السنين في بسكنتا والساحل، أن يصرف الوقت الذي أمضاه في ترجمة أعمال جبران، على وضع كتاب جديد عن عمّه، الذي نضعه شخصياً بمنزلة جبران الفنية والأدبية. تكفي الدلالة على أهمية ميخائيل نعيمه ما قاله أوشو، المتصوف الهندي المعروف الذي يتبعه الملايين من الناس حول العالم، في “كتاب مرداد”، “إن هناك الملايين من الكتب، لكن “مرداد” يبقى عالياً على كل كتاب في الوجود”.

(النهار)

السابق
بدء عملية أمنية في المبنى دال في سجن روميه
التالي
السيد نصرالله يفقد حجّته