إيران بعد إسرائيل: النكبة العربية الثانية

لو لم تنوجد إسرائيل، هل كان لإيران أن تخترق العالم العربي؟ لو رفع العرب التحدي الإسرائيلي، هل كانت إيران فكرت، ولو لحظة واحدة، أن تؤسس للعبتها القائمة على «إزالة اسرائيل من الوجود»؟ التاريخ لا يفهم على أساس افتراض الـ»لو»، على أساس التصور باحتمال ان تكون حصلت الأمور بغير ما حصلت. ولكن من السهل الإجابة على هذا التخيّل: عرب أقوياء أشداء ضد إسرائيل، قادرون على فرض حلّ الدولتين والاعتراف بحق الفلسطينيين في أرضهم، إما بإعادتها اليهم، وإما التعويض لهم عنها… كانت إيران ستلتفت إلى بلد آخر، إلى «قضية» فاشلة أخرى، لتبني مصبّات تصدير «ثورتها الإسلامية». ولكن الذي حصل حصل، وبدءاً من تأسيس إسرائيل وحتى الآن، كانت المحاولات العربية كلها تراكم الفشل تلو الآخر. من عبد الناصر الذي نجرْجر من بعده كل تبعات هزيمة 1967، مروراً بمنظمة التحرير الفلسطينية التي لم تنجح أكثر منه طوال سبعينات القرن الماضي وشيء من ثمانيناته، بطرح نفسها كبديل شعبي، «حرب التحربر الشعبية»… ثم أتت مرحلة «حزب الله» الذي تلقف القضية منذ ثلاثين عاماً، وكانت النتيجة تغلغلاً إيرانياً يمتد على المشرق العربي بأسره.

وتلك العلاقة الحميمة بين إسرائيل وإيران، بين الوجود ومبررات الوجود، لا تقتصر على ارتكازها على فشل عربي وحسب؛ انما تقوم على تشابه لا تخطئه العين المجرّدة، من دون الحاجة الى عدسات مكبرة. فإسرائيل وإيران تقومان على عقيدة دينية عسكرية: الأولى يهودية، نووية، معسكرة لمجتمعها، رجالاً ونساء، عدوها العربي المحيط بكل حدودها يؤجج عقيدتها ويفعِّل قدراتها العسكرية والتدريبية والمناورتية. هي تسعى الآن لكي يعترف العالم كله بيهوديتها؛ فيما إيران أقرت المذهبية في دستورها، لا تحتاج إلى هذا الاعتراف العالمي، ربما بسبب هيبة ثورتها ومظلوميتها أمام الإمبريالية الأميركية ورسوخ كيانها وقدَمه؛ وهي لها برامج تسليحية فائقة الطموح والتطور، تتمتع بالأولوية على كل برامجها الأخرى، التنموية خصوصاً. وقنبلتها النووية هي قضية وطنية تجمع حولها كافة تياراتها، الموالية والمعارضة، المحافظة والإصلاحية، العسكرية والمدنية. إسرائيل وإيران أيضا كيان واحد، مؤسسة واحدة، قرار واحد، يخترقان عرباً من جنسيات مختلفة، بمصالح صغيرة وكبيرة متباينة، وطموحات زعامية على حساب بعضها البعض؛ بحيث ان الدولتين، إيران وإسرائيل، لا تتعبان كثيرا في تشتيت صفوف العرب بتلاعبهما على المصالح والطموحات، بالفصل والتقسيم والكسر. ما يسهل على الدولتين التنفيس عن حاجاتهما الى «المجال الحيوي» المباشر، وهي الكلمة المهذبة لـ»النفوذ الاقليمي»؛ وما مجالهما المباشر هذا سوى دول عربية محاذية، أو قريبة.

نقاط التشابه الأخرى بين إسرائيل وإيران: ان الأولى، عند تأسيسها، وما بعده، أحيت قومية عربية بقيادة ناصرية، كانت قد ايقظتها خسارة دولة عربية بأسرها، فلسطين، والسيطرة العسكرية الإسرائيلية على الحدود العربية. إيران اليوم لا تفعل شيئاً آخر: اختراقها عبر الميليشيات المسلحة، أو عبر انظمة عربية مطيعة لها، سائرة بقراراتها وارشاداتها وتمويلها… أيقظت قومية عربية في مراحلها الأولى الآن، غطَّ عليها غبار الحقد المذهبي والطائفي، وتجلت وثبتها الأولى في الردّ السعودي على انقلاب الميليشيات الحوثية ضد الحكومة الشرعية في اليمن. قومية عربية جديدة، ترتسم ملامحها الأولى اليوم في المعركة ضد محاولة إيران السيطرة على الملاحة البحرية العربية الجنوبية بأسرها. استباحت إسرائيل الدم العربي، ومن بعدها إيران الآن، فتسببت الأولى بنكبة عربية، والثانية بواحدة جديدة أمرّ منها وأدهى… هذه الاستباحة هي الديناميكية التي ستطلق فكرة القومية العربية الجديدة.

من ناحية البروبغندا، فان الأمر ملفت: اليهود الذي أسسوا إسرائيل، قامت كل دعايتهم وتعبئتهم وتمويلاتهم على أساس مظلومية تاريخية وراهنة: الغيتوات اليهودية، المذابح المنظمة بحقهم، المحرقة النازية… كلها عذابات استأهلت اسرائيل بفضلها دعماً دولياً غربياً هائلاً، أدى إلى ما نعرفه عن انتصار المظلومية اليهودية بتأسيس إسرائيل، فتحول بذلك دعاتها إلى ظالمين. الأمر نفسه ينطبق على إيران: فلسفتها العلنية والضمنية ان الشيعة العرب ظلموا في ظل الأنظمة السنية العثمانية، وما قبلها، التي همشتهم وحرمتهم من الازدهار والنمو. فكانت الاستجابة الشيعية العربية لها. لم يأتِ ببال إيران أن تتحرش بالأقلية العلوية في تركيا، المحرومة من حقوقها، هي أيضاً، أو ربما فعلت ولم تفلح. وقد يكون السبب انعدام وجود مبرر قوي للتسليح على طريقة الميليشيات الشيعية العربية، وربما أيضا إلى حصانة الدولة التركية، مقارنة بانكشاف الدول العربية، دولة دولة.

أوائل الذين قاتلوا من أجل قيام إسرائيل وطرد الفلسطينيين من أرضهم بواسطة المذابح والتهجير القصري، كنا وما زلنا نسميهم «عصابات»؛ أي مجموعات مسلحة، افترست مدنيين عزلاً، قرويين في غالبيتهم، جاءت من خارج فلسطين، وقامت على أكتافها أولى مراحل تأسيس إسرائيل. الأمر عند الايرانيين مختلف قليلا: الجماعات المسلحة التي تأتمر بأوامر مرشدها وفقيهها، ليست خارجة عن منْبتها؛ انها أصلية، جوانية. ولكن عقلها وقرارها ومخيلتها آتية كلّها من إيران. من دون إيران، لا وجود لهذه الميليشيات على البسيطة. مع الفرق: ان البروبغندا التي تقوم بها اسرائيل واضحة، سافرة. تريد وطناً صافياً لليهود، وتفوقاً عسكرياً ساحقاً على العرب، واحتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية عبر القضم البطيء والحثيث لما تبقى منها. أما البروبغندا الإيرانية فتسير خلف قناع، دائماً، ولا مرة تكون سياستها واضحة، إلا عندما تحل عليها الروح الإمبريالية الإقليمية، التي غذت كتمانها ورسمت ملامح قناعها هذا. دائماً إيران تتدخل من أجل ما أهدره اليهود من حقوقنا، دائماً هي مع المحرومين المظلومين، مع الأمن والحوار، مع أفضل طبائع الاجتماع البشري… من دون أن ينتقص ذلك من نشر سفنها الحربية والتهديد بصواريخها الباليستية والسخرية من العرب الأضعف منها… فيما إسرائيل لا تستحي أبداً من القول انها تريد الحرب، تتدرّب عليها ليل نهار، تنظم من أجلها المناورات… عقلها الخفي أقل من عقلها العلني، عكس ايران التي تضمر أكثر ما تكشف. فالأولى، أي اسرائيل غير حريصة على صورتها في المنطقة، لا يهمها إن وضعنا على رأسها قرون الشيطان، فيما إيران تتقدم نحونا بملامح النعجة المحبة المسالمة، التي تجرّ خلفها قدرات عسكرية هائلة…

الدولة التي أسستها إسرائيل هي دولة شاذة غير طبيعية، تقوم على ديموقراطية عنصرية، ديمقراطية جمهورية افلاطون، حيث التشاور والانتخاب يقوم بين «النخبة»، فيما «العبيد» يقبعون تحتها بالسخرة والقوانين التمييزية. وعنصرية اسرائيل هذه تفسد ديموقراطيتها، وتكتب لها شقاءً مستمراً طالما لم تحلّ معضلتها الأساسية وتعيد للفلسطينيين حقوقهم. أما إيران، فقد أنشأت في العالم العربي دويلات تحكمها ميليشيات خارجة عن سلطة الدولة القانونية؛ وهي ميليشيات لم يصدَّر لها اكثر مما هو موجود في ايران: أي تسلطية رجال دين، تحميهم العصمة الدينية، فتحولهم الى أشباه آلهة، كما هم الملالي الإيرانيون. دولة إسرائيل ودويلات إيران في قلب العالم العربي… انهما عنوانان يلخصان النكبة العربية الثانية، القائمة على ظهر الأولى، المتمسكة بها، لأنها حجتها وذريعتها. نكبة أكثر لؤماً، أكثر تعقيداً، على صورة السجادة الإيرانية المعقودة بألف قطْبة وخيط ولون.

السابق
الوزير مخلافي ل«جنوبية»: هناك فرصة للخروج من الأزمة في اليمن
التالي
رقصة الحروب في الشرق الأوسط