الثروة الغازية اللبنانية: من هم «زبائننا»؟

خريطة تُظهِر مواقع النفط على الشاطئ اللبناني. (الأرشيف)

يكتسي قرار لبنان حول الحصة من الاحتياطي التي سيتمّ تخصيصها للتصدير وضمان أسواق التصدير لغازه الطبيعي أهميّة محوريّة لجهة تحقيق هدف زيادة المكاسب الناشئة عن تطوير احتياطاته البحريّة من الغاز الطبيعي، كما لجهة توفير الحوافز الملائمة للشركات الدوليّة لتطوّر هذه الموارد.

لا يرجح أن يبدأ الإنتاج قبل منتصف العشرينات. وحتّى ذلك الحين، سيتعيّن على لبنان استيراد كلّ حاجاته من الغاز بغية زيادة نسبة الغاز الطبيعي في باقة الطاقة. ويمكن اقتصاد لبنان أن يستفيد بشكل كبير من واردات الغاز الطبيعي المؤقّتة. عام 2013، بلغت قيمة واردات لبنان من النفط ومشتقّاته 5,11 مليارات دولار، شكّلت 11,4% من إجمالي الناتج المحلّي. وبحسب تقديرات وزارة الطاقة، يمكن لبنان توفير 1.9 مليار دولار من فاتورة الوقود السنويّة عند بلوغ سعر النفط 90 دولاراً للبرميل، إذا حوّل توليد الطاقة إلى الغاز. وبالإضافة إلى هذه المدّخرات، يمكن زيادة نسبة الغاز في باقة توليد الطاقة أن يعود بفوائد بيئيّة كبيرة.
ولكن بغية تحقيق هذه المكاسب، على الحكومة أن تعتمد سياسة واضحة حيال تسعير الغاز للسوق المحليّة. وبما أنّ الطلب على الغاز شديد الإرتباط بالطلب على الكهرباء، لا بدّ للحكومة أن تشرع في إصلاح قطاع الطاقة وأسعار الكهرباء. وتعاني شركة كهرباء لبنان من خسائر ماليّة وتشغيليّة هائلة، تشكّل بين 20 و25% من الإنفاق الأوّلي للحكومة. وتعاني الشركة أيضًا من قصور مزمن في الإستثمار، منعها من تحديث شبكتها وتوسيع قدرتها على توليد الطاقة.
تستدعي زيادة نسبة الغاز في باقة الطاقة أيضاً استثمارات كبيرة في شبكة الغاز، بما في ذلك التخطيط القاضي ببناء أنبوب غاز ساحلي بطول 173 كلم وعرض 36 إنشًا، يربط بين محطّة تخزين بريّة مُزمع إنشاؤها في الشمال وبين صور في الجنوب، ويتيح لجميع محطّات الطاقة الأساسيّة في لبنان الإستفادة من إمدادات الغاز. إلاّ أنّ هذا المشروع يصطدم بعقبات شتّى، بما في ذلك استصلاح الأراضي وإيجاد التمويل اللازم لتنفيذه.
على الحكومة أيضًا أن تسعى إلى ضمان مصادر مستقرّة من إمدادات الغاز. ونظراً الى عدم توافر أيّ أنانيب غاز إقليميًّا في الوقت الحالي، فإنّ استيراد الغاز الطبيعي المُسال يُعتَبَر أكثر الخيارات واقعيّةً وعمليّةً. وقد أعلنت الحكومة عن خطط لاستيراد الغاز الطبيعي المُسال لاستبدال وقود النفط في توليد الطاقة، رغم غياب محطّات إعادة تحويل الغاز في البلاد حالياً، إضافةً إلى عدم إبرام أي عقد لبناء محطّات مماثلة وتشغيلها.
وفي حال طوّر لبنان موارده الغازيّة في نهاية المطاف، ملبّياً الطلب المحلي، ستكون أمامه مجموعة واسعة من الخيارات حول كيفيّة تحقيق الدخل من ثروة المحروقات من خلال صادرات الغاز. وستعتمد استراتيجيّات لبنان التصديريّة في المستقبل إلى حدّ كبير على الحجم النهائي لاحتياطاته، وأهداف الإنتاج، وكلفة إنتاج الغاز اللبناني، ما سيؤثّر على النطاق السعري الّذي يتعيّن على لبنان أن يضمنه إضافةً إلى العوامل الخارجيّة مثل مستويات أسعار الغاز في أسواق التصدير المحتملة.
يعتمد الأمر تالياً على التوقيت. ونظرًا الى التأخير الكبير في جولة العطاءات البحريّة وعمليّة المناقصة، إضافةً إلى الفجوة الزمنيّة بين التنقيب الأوّلي، والحفر التقويمي، ثمّ الإنتاج فالتصدير في النتيجة، نستنتج أنّ التوقّعات الحاليّة الّتي تفيد أنّ صادرات الغاز اللبناني ستبدأ فقط بعد أربع سنوات هي فعلاً غير واقعيّة البتّة. أمّاالنقاش الأخير الّذي أجرته الحكومة اللبنانيّة حول تحديد إطار من ثماني سنوات، مع بدء التصدير في مطلع العشرينات من القرن الحالي، فيبدو أكثر واقعيّة بقليل، لكنّه قد يتأجل بفعل استمرار الجمود السياسي. وبحلول هذا الموعد، لا شكّ في أنّ لبنان سيجد نفسه في سوق تختلف جذريًا عمّا هي عليه اليوم.
لطالما كان الخيار التقليديّ الأوّل الّذي يؤخذ في الاعتبار لتصدير الغاز الطبيعي يكمن في استخدام الأنابيب الإقليميّة لإرساله إلى الدول المجاورة للبلدان المنتجة. ولا يخلو جوار لبنان من الدول الشديدة الحاجة إلى الغاز. ويمكن اعتبار أسواق جاريه الجنوبيين الأردن ومصر ملائمين جدًّا من حيث التكاليف الأوليّة للبنية التحتيّة، علماً أن أنبوب الغاز العربي يربط كليهما أصلاً بلبنان.

غير أنّ هذا الخيار ينطوي على تكاليف وتعقيدات. فبالإضافة إلى واقع أنّ الطريق طويل ومعرّض للقطع، فإنّ إمكانيّة التصدير الإقليمي إلى مصر والأردن مغرية جدًّا، الى درجة أنّ إسرائيل تدرس حالياً هذا الخيار بشكل جدّي. وإذا تحقّق ذلك، يصبح أيّ حديثٍ عن تصدير الغاز اللبناني إلى هذين البلدين في غير محله، لأنّ إسرائيل ستكون قد استولت على السوق قبل أن يبلغ لبنان موقعاً يخوّله التصدير.
ولا شكّ في أنّ خيار تركيا واتصالها بأوروبا قد يتّسمّ أيضًا بجاذبيّة كبيرة، لكنّه لا يخلو من التعقيدات. فالواقع أنّ الطلب الأوروبي والتركي على الغاز ينطوي على الكثير من الغموض، مع ظهور مجموعة من المورّدين الآخرين (في مضماري الأنابيب والغاز الطبيعي المسال) في الأفق في مطلع العشرينات من القرن الحالي. وقد تؤدّي آليّات التسعير، بما في ذلك الخطوات الأوروبيّة الحثيثة نحو تسعير الغاز إلى تقديم عائدات أكثر تقلّباً، أو حتّى أدنى، إلى مصدري الغاز الصغار، وهي مسألة بالغة الحساسيّة بالنسبة إلى لبنان، إذ أنّ تكلفة إحتياط الغاز لديه قد تكون أعلى مما هي عليه بالنسبة إلى المورّدين الأوروبيّين البدلاء كروسيا مثلاً.
ويمكن لبنان أن يفكّر في وضع استراتيجيّة خاصّة به لتصدير الغاز الطبيعي المسال، وهي تبقى الخيار الأكثر مرونة لتصدير الغاز الطبيعي، وتتيح النفاذ إلى الأسواق خارج المنطقة كأوروبا كما الأسواق الممتازة الحاليّة في شرق آسيا. إلاّ أنّ خيار تصدير الغاز الطبيعي المسال محكوم بعدد من عوامل الشكّ، ومن أهمّها الحجم الفعلي لإحتياطي الغاز في لبنان. وسيحتاج الغاز الطبيعي المسال إلى احتياطات كافية، وإنتاج كافٍ، وتخصيصات كافية من إنتاج الغاز الطبيعي اللبناني لأسواق التصدير، وذلك بموجب عقود طويلة الأمد ستحصر الغاز اللبناني لنحو 15 إلى 20 عامًا بالتصدير.
أمّا توقيت هذا الخيار فهو أيضًا حسّاس. فبحلول الوقت الّذي يصبح فيه الغاز الطبيعي المسال في لبنان جاهزاً للتصدير، سيتعيّن على لبنان أن يتنافس مع عدد من الوافدين الجدد إلى السوق، علماً أن العديد منهم يتمتّع بوزن أكبر في أسواق أساسيّة في أسيا/المحيط الهادئ وأوروبا، لاسيّما أوستراليا، وشرق إفريقيا، وشمال أميركا.
يواجه لبنان تحديات خارجيّة وداخليّة على حدّ سواء لتحقيق الميزات التجاريّة المتّصلة بخيارات التصدير المختلفة. ولكن، يكمن التحدّي الأساسي في الوقت الحالي داخل لبنان؛ ويرتبط على الأخصّ بقدرته على توفير إطار تعاقدي محلّي للمستثمرين الأجانب، يتّسم بما يكفي من التنافسيّة والاستقرار لإتاحة تطوير موارد الغاز؛ كما يرتبط من جهة أخرى باستقرار الوضع السياسي الداخلي وأطُر عقود الغاز في لبنان التي من شأنها أن تُظهر لبنان كمصدرّ غاز مرغوب وموثوق ومستقرّ للزبائن المحتملين إقليمياً ودولياً.

(النهار)

السابق
نصرالله: لنختلف على اليمن.. ولنحيّد لبنان
التالي
منع حفيد عمر الشريف من دخول مصر.. والسبب!؟