ريمون جبارة.. الساحر

نحن معشر الذين تخضرموا بين الزمن اللبناني الجميل في أواخر حقباته الذهبية، بين أواخر الستينات وبدايات السبعينات وقبيل انفجار الحرب، كان ريمون جبارة من الرواد المسرحيين الذين علّمونا واستدرجونا الى ثقافة المسرح. كان آنذاك في عز توهّجه مع نخبة من نجوم، كنا ولا زلنا نؤخذ بسحرهم، فيما جيل تلك الحقبة يقف ولا يدرك انه واقف عند شفا الانهيار الكبير، ثقافيا ومعرفيا وقيميا قبل الانهيار الامني نفسه. زرع هذا الساحر فينا ما استعصى على سواه ان يفعله، ولعلنا لا نغالي أبداً ونحن نشهد فيه وله في رحيله، ولو انه ليس في حاجة الى امثالنا، ان قلنا انه ساهم مع كبار امثاله في الإبقاء فينا على تلك اللبنات الثابتة والراسخة من ثقافة الاصالة الفنية والثقافية والفكرية.

لريمون جبارة المسرحي والكاتب والمفكر ملائكة كثر كفيلون بنفض ارثه الرائع وتظهيره امام الرأي العام. ولكن ماذا عن جانب آخر موغل في الشخصانية والذاتية التي تشعرها حيال رجل شكل قيمة ضخمة، وكان يعتصرك الألم والغضب والسخط لانه ابتلي بقدر قاس أقعد فيه الجسد وعصي على الروح الوثابة التي جسدتها ابتسامته الساحرة الساخرة حتى من قدره؟ ظلت سخريته تلك كأنها سلاحه الامضى في مقاومة قعوده وقدره، وكنت أعلم انه يعلم انني من عشاقه ومحبيه ومعجبيه، وانا الذي لم ألتقه الا نادراً. فاجأني مرة ان قال فيّ شهادة في مقابلة تلفزيونية جعلني “بموجبها” ما اعتبرت انه وسام لا استحقه من هذا الذي نشأت على اعجابي بأعماله المسرحية ومن ثم وضعني قدر جميل في زمالة الكتابة والصحافة معه في “النهار”.
اتصلت به لأشكره فشعر بأن الغصة كادت تمنعني من التعبير. قلت له ان مقالاته في ملحق النهار هي من اجمل ما يمتعني وخصوصا لجهة سخريته الرائعة حتى من نفسه مرات. لم يدعني اكمل فانفجر ساخراً بضحكته العريضة ليذهب بعد ذلك في شرح ممتع لرؤيته الى الصحافة الحقيقية الحرة.
ريمون جبارة كان في قلمه الساخر صوتاً صارخاً بحق في برية الانحدار والهبوط والتراجع الهائل. كان حراً حتى اللاحدود يتملّكه ذاك الشغف المعتق الاصيل بالحرية الذي يلازم الكبار وحدهم، ويجعلهم منارات قيم وأصالة، بات لبنان يشارف اليتم الخطر لاندثارها. شجاع فوق العادة، حمل صليب قعوده اكثر من ثلاثة عقود اغنى خلالها المسرح والفكر والصحافة بارث ذاته، والأهم انه صنع مأثرته الانسانية الخاصة وطبعها بطابعه الفريد النادر. هو ريمون جبارة الذي أخافنا رحيله من فقدان المنارات الكبيرة وعدم استحقاقنا لها في الامس كما في الغد. كبير آخر رحل ففقد لبنان جزءاً آخر من زمن مجده وتألقه.

(النهار)

السابق
فيمَ فكَّر أوباما يوم اندفع نحو إيران؟
التالي
لن تصدقوا ما تسأله أشهر الشركات للمتقدّمين إلى العمل فيها