حسن داوود 1/2: الماضي هو الذي دفعني إلى الكتابة

حسن داوود
الرِّواية الجديدة لحسن داوود "نقِّل فؤادك"، تروي طبيعة معاناةٍ مضاعفة، لبطلها وراويها الصحافيّ المخضرم قاسم، الذي يقف على عتبة السِّتِّين من عمره، وهي رواية تُثير أسئلة كثيرة ومتنوعة حول جبروت الزمن وتحوّلات المكان وذلك من خلال محاولة الحفاظ على المعنى الجوهري لقيمة الحياة الحياة الإنسانية ونورها الباهر... هنا القسم الأول من الحوار مع الكاتب.

الناقدة يُمنى العيد، قالت لي، في حوارٍ أجريتُه معها: “إنَّ المُتَخَيَّل الإبداعيّ، يُحيل على العدالة الإنسانيّة”. وبهذا المعنى نقول: إننا إن نقرأ حسن داوود، قراءة عميقة، طبعاً، لا بدَّ لنا من أن نسْتشِفَّ نزوعه الإصراريّ إلى ما نُسمِّيه بتلقائيّة تامّة “تأليه” الكتابة الإبداعيّة الصِّرفة، لأن الكتابة الإبداعيّة، الحقّة والجوهريّة، هي – وكما تُظهرها بصماتُه الشديدة الخصوصيّة (في الرِّواية والقصّة وفي نصِّه الصحافيّ أيضاً، معاً وعلى حدٍّ سواء) لا تكتفي فقط بالقول: “ليت الحياة تكون أجمل مما هي”، بل هي تقول فوق ذلك: “إننا محتوم علينا، نحن بني البشر، أن نجعلها أجمل وأروع، أي عادلة، قدر المستطاع”. ذلك لأنه، هو المستحيل بعينه – تماماً – أن تكون الحياة ولو لبرهة خاطفة، هكذا جميلة من تلقائها. من هنا، نلمس اتّصاف إبداعيّة داوود، بتلك السطوة المرعبة، على الواقع الذي تتناوله. إذ هي (أي هذه الإبداعيّة)، لا تنجرُّ إليه، مطلقاً – وبقناعةٍ وحزمٍ نادرين – قيد أنملة، من خلال إملائها، على هذا الواقع، شروطها هي بالذات، لأنها ذات قدرة كليّة بإتيانها به – جملة وتفصيلاً – إلى الكتابة. ومن هنا، نقف، على مكامن سرّ الينابيع الإبداعية الـ”داووديّة”، الي تجعل الأعمال الإبداعيّة لصاحب “لا طريق إلى الجنّة”، ضاجّة وفوّارةً وهادرةً بالحياة، وهذا ما ينطبق، مجدداً، على روايته الجديدة “نَقِّل فؤادك” (عن دار الساقي، بيروت، ط.أولى، 2015)، هي التي تروي طبيعة معاناةٍ مضاعفة لبطلها وراويها، الصحافي المخضرم قاسم، الذي وهو المقبل على عمر السِّتين، شرع في البحث المضني، عن حبيبته التي أضاعها لأكثر من أربعين عاماً، مع أنه مدرك – تماماً – بأنّه، في ذلك، إنما يبحث عن سراب، ليس إلا، وفي الأثناء أضحى دون عمل لأنه، اضطر لأن يستقيل من عمله الجديد، رئيساً لتحرير مجلة قيد الإنشاء؛ كما أنه “مهموم” – وبعمق – بـ”موت” بيروت العتيقة، بفعل عمرانية أخمدت وهج حياة هذه المدينة الكوزموبوليتانية، “بقتل” معالمها السابقة. لكن قاسم ولتعويض عاطفي، عمد إلى التعرّف إلى ثلاث خادمات آسيويات، يعملن في المحلات الواقعة، على طريق عمله ذاك، فنشأت بينه وبينهن علاقة إنسانيّة، لم تتخطَّ حدود اللياقة، فقام بتزجية وقته الضائع، منقّلاً فؤاده بينهنّ هُنّ الثلاثة.

هنا حوار مع حسن داوود، حول متخيَّله الإبداعي، عموماً، وخصوصاً روايته هذه، التي يتجلى فيها أيضاً – وكما في كلّ عطاءاته السابقة – احتفاؤه الباذخ بالإنسان العادي والبسيط والمهمَّش، معيداً الاعتبار إلى إنسانيّة هذا الإنسان.

· في كل عملٍ إبداعي جديد لك – رواية كان أم قصة – ثمة، كما أرى، ابتكار خاص ولافت، للتقنيات الفنية، من جهة، ولنُدرة الحكايات، المبتكرة بدورها، والمرويّة في هذه الأعمال، التي تُظهر، أن ما تتصف به من تغيير واختلاف كلِّيَّين، إنما هو أمرٌ مقصود لذاته، يُمليه عليك – وعلى ما أستشفُّ من ذلك، هاجسُ تجاوز التجريب، إلى تطوير الكتابة النثرية الإبداعية العربية، من خلال خَلْقٍ جديد ونوعي لجماليات التلقي – في الشكل والمضمون معاً – لدى القارئ، فما هو قولك في ذلك؟

ألتغيير والإختلاف اللذان تذكرهما قد يكونان من هواجسي، لكنني مع ذلك لا أعرف كيف أسوق الكتابة إليهما. بل أنني كثيرا ما أتساءل كيف يستطيعهما كتّاب ممن يرفعون رايتهما في تعريفهم لما يكتبون. ذاك أني أرى أنّ الكاتب قليل القدرة على تغيير أسلوبه. لن أبالغ فأقول إنه أسير لغته وصوره وطريقته في مقاربة العوالم التي يختارها لكتابته، لكن القفز عنها إلى ما يخالفها يبدو لي في غاية الصعوبة. طبعا أجدني أحيانا وقد سئمت تلك السهولة، المتأتية من المراس ومن استحكام الأسلوب. كما أجدني كارها للجملة التي تبدو لي كأنها، بسبب اعتيادي على أسلوبي الكتابي، تألفّت من تلقائها. أقول عندها أنني كسلت، وأنني لا بدّ أغفلت بهذا الإستسهال شيئا مما أردت قوله.

الكتابة ذات المقاصد، الأسلوبية وغير الأسلوبية، تتكوّن فكرتها وخطّتها مسبقا في ذهن بعض الكتاب. أقصد أن هؤلاء يبدأون الكتابة مدركين أيّ الطرق ستسلك وإلى أين تصل. في ما خصّني لم أعرف مرّة كيف ستكون الجملة التالية وعلى أيّ شكل. دائما، ومع نهاية الجملة التي اكتملت بوضع النقطة في آخرها، تتشعب الإحتمالات ويغالب بعضها بعضا وسيكون عليّ أن أجد صيغة للخروج من زحمة الإحتمالات. ليس أنني أكتب كما يخطّ الخطاط، سطرا مستويا لا صعود فيه ولا هبوط. ألرواية تقترح، تراود، تستعصي وترفض، والفكرة التي أكون ذاهبا إليها قد تضيع، أو تتحوّل، أو أنتهي بها إلى ما يشبه التسوية التي لا أكون راضيا عنها رضى تاما. لهذا أقول أنني، في ما أكتب، أكون أبحث عن صيغة أو عن طريقة للخروج، أي للخلاص كأنما من مأزق أوقعني فيه تشوّشي.

من كانت هذه حاله يفضّل ألا يُدخِل عنصر إرباك جديد إلى نفسه وكتابته، خصوصا وأنني لا أحب أن أقترح على الرواية العربية كيف ينبغي لها أن تكون. يوما بعد يوم أراني أزداد اقتناعا بأن الكتابة تطلّع فردي وليست مذهبا أو دعوة جمْعية. كلّ الأعمال الروائية والشعرية الباقية، أقصد التي استحقّت البقاء، تكوّنت من ذلك التطلّع الفردي.

بالطبع أرغب في أن ترتقي جماليات التلقّي إلى ما هو جديد ونوعي وحقيقي، وأن يخرج القراء من ذلك التعريف الدهري للرواية على أنها تقرأ للتسلية والتشويق. هذه القراءة الخاملة أبعدت النسبة الأعظم من القراء العرب عن متابعة الفضاءات المتواصلة الإتساع والعمق التي تكشفها الأعمال الروائية.

السابق
(ارشيف 2015) إخراج هاني قبيسي من قيادة حركة «أمل»: هل تبدأ الانشقاقات؟
التالي
عسيري: أين مصلحة البلد في مواقف فريق معين بموضوع اليمن؟