كلا… هذه الحرب ليست سنّية ـ شيعية

أكثر من الجماهير المذهبية المتعصبة، الشيعية منها والسنّية، يركز الإعلام الغربي على كون حرب «عاصفة الحزم» هي حرب بين السنّة والشيعة. ولا عجب كبيراً في ذلك؛ فمن دون الرجوع إلى الأيام الخوالي التي كان المنتدبون الفرنسيون يردّدون فيها ان «العلمانية ليست بضاعة للتصدير»، رداً على احتجاجات بفرضهم تقسيمات طائفية في التمثيل السياسي في سوريا ولبنان… من دون الرجوع بعيدا في التاريخ، يكفي أن نستعيد إشارة إعادة الانطلاق لهكذا توصيف بعيد اعتلاء أوباما سدّة الرئاسة الأميركية عام 2009؛ وقتها، وجّه أوباما خطابين إلى أمتين إسلاميتين: الأول إلى الأمة العربية، والثاني إلى الأمة الإيرانية. أي، بمعنى آخر، رسالة إلى العالم السني، المتمثل يومها بالقاهرة، وأخرى إلى العالم الشيعي، المتمثل بإيران. ومنذ بداية عهده الثاني، أخذ هذا التمييز نصيبه من الاهتمام، فتقرّب أوباما من طهران. وهو مؤخرا، في مقابلة مع توماس فريدمان في «النيويورك تايمز»، يصف الحروب الإقليمية في منطقتنا انها «بين السنة والشيعة وبين اسرائيل والفلسطينيين». الإعلام الغربي يعتمد هذه التقسيمة، وعدد لا بأس به من الإعلام العربي كذلك؛ خصوصا الإعلام المغاربي الفرنكوفوني، الذي يتقاسم مع الغرب كليشيهات عديدة، ومنها ذاك التوصيف للحرب، على انها تدور بين شيعة وسنّة.

ولكن مهلا، هذه الحرب ليست مذهبية، وإليكم الحيثيات:

أولاً، الحرب المذهبية التي تدار بتعبيرات واصطفافات سنّية شيعية، بكل الادوات العقيدية والتاريخية اللازمة لها، هي تلك يخوضها الجهاديون، من «قاعدة» و»داعش» و»نصرة»، وفصائل إسلامية أخرى، ضد الشيعة خصوصا، قبل أبناء الديانات الأخرى؛ وذلك بعبارات صريحة، لا تحتاج إلى تأويل. في الدول التي انتشرت فيها المليشيات الإسلامية الشيعية، الإيرانية الولاء، نشأت أيضاً المليشيات السنّية، الداعشية خصوصاً، التي تريد ان تبيد الشيعة عن البسيطة، بصفتهم «روافض»، أصحاب بدع… انتزعوا السلطة من يد السنّة… الخ. وفي الآونة الأخيرة، قبل اندلاع حرب «عاصفة الحزم»، كانت هذه التنظيمات تتغذى من عصبية المليشيات الايرانية، من تبجحها بقوتها، وبقوة صواريخها وقنابلها. وآخر الوقائع المثبتة على هذا الأمر، هو حال ميليشيات «الحشد الشعبي العراقية»، الإيرانية القيادة والتنظيم والتسليح، بانفلاتها على تكريت وأهلها. قامت تماما بما قام به «داعش»، ولكن من دون تصوير هوليوودي: قتل ونهب واغتصاب وتهجير وسرقة وحرائق؛ فكان التَنَاظُر عادلاً بين المليشيات المذهبية السنية والشيعية.

ثانياً، من مصلحة النظام الإيراني تكرار أقوال الإعلام الغربي، من أن هذه الحرب سنّية شيعية. من مصلحته ومن صميم كينونته. فايران، قبل إسرائيل التي تجهد لتكريس يهوديتها، اعتمدت المذهب الشيعي، الاثني عشري، اساساً في دستورها. أما بخصوص مصلحتها، بصفتها دولة تبحث عن «مجالها الحيوي» على حساب بقية البلدان والشعوب، فان عملها منذ ثلاثة عقود، انكب على التقاط مكامن الضعف البنيوي العربي، المتمثل بغياب نظام مواطنة صحيح، ففهمت ان أفضل تغلغل هو التقاط الشيعة المهمشين المظلومين، تسليحهم وتمويلهم وتعبئتهم، ليصبحوا أداتها الداخلية التي لا بد منها؛ فحولت بذلك مظلومين الى ظالمين، يعتقدون بانهم بذلك يأخذون بثأر تاريخي عمره من عمر الإسلام، ويستعيدون حقوقهم بالحكم، الذي اغتصبه السنّة؛ أي المنطق الداعشي مقلوباً…

ثالثاً، هذه الحرب هي للدفاع عن المواقع الاستراتيجية العربية التي بلغت حدا ليس وارداً في عقل أية أمة، مهما بلغ انحدارها، أن تذعن له. فإن تتوسع إيران، عبر ميليشياتها المذهبية، بحيث تسيطر على واحدة من مداخل عيشنا واقتصادنا، من مصر ودول الخليج… أن تتوسع إيران، فتسيطر ميليشياتها المأمورة بأوامرها، على باب المندب، فهذا يعني انها اجتازت خطاً أحمر، يخترق الأمن العربي بثغرة جهنمية، تلحق ما تبقى من استقراره وازدهاره إلى مصاف المبتلين بسياستها. هذه الحرب هي للدفاع عن مواقع متقدمة من هذا الأمن.

رابعاً، صحيح أن دولاً سنّية التحقت بالائتلاف الذي يخوض حرب «عاصفة الحزم»، باكستان، وبدرجة أقل، تركيا. صحيح أيضا اننا لا نتماهى مع التظاهرات الباكستانية المؤيدة لهذه الحرب، إذ تشبه تظاهرات التأييد لبن لادن؛ صحيح أيضا أن قيادة هذه الحرب، السعودية، نظامها اسلامي، مع ما يعني ذلك… ولكن نظاماً عربياً هو قائد هذه الحرب. والقومية التي ايقظتها حربه ضد ميليشيات ايران لا تشبه القومية الناصرية، التي صارت من التاريخ؛ ولكن هذه القومية صادقة، ناجمة عن مخاوف قومية حقيقية، عن ابتلاء قومي، عن استفزاز قومي؛ هو نوع مختلف من العروبة، بقيادة مختلفة، أثارت الغيرة السياسية المصرية، المعتادة على الهيمنة الاقليمية، فكانت حملة شعواء قادها بعض الإعلام المصري الموالي للرئيس عبد الفتاح السيسي، ضد «عاصفة الحزم»؛ ذلك ان إقراره بالقيادة السعودية يضرب واحداً من أسس زعامته، القائمة على التشبّه بعبد الناصر، قائد الحملة العسكرية من أجل الثورة اليمنية عام 1962. التاريخ لا يتكرر، بالرغم من عدم تعلمنا دروسه.

خامساً، ان عدو عدوي ليس بالضرورة صديقي؛ كذلك، فان العداء لميليشيات طهران، المعادية لإسرائيل، لا يعني تقرباً من إسرائيل، أو انضماما الى محورها؛ كما يحاول ان يحرّف جماعة ايران، عن الحرب في اليمن، فيستغلون كلمات لنتانياهو، ويحرفونها عن موضعها للقول بأن الذين يحاربون «المقاومة»، أي ميليشيات إيران، هم «خونة عملاء لإسرائيل». هذه المعادلة المغشوشة، استخدمتها أنجح ميليشيات ايران، «حزب الله»، عندما كانت «تحارب» اسرائيل تعزيزاً لـ»أذرع إيران في جنوب لبنان»؛ وهي الآن لا تتوانى عن وصف منتقديها بأنهم يحبون اسرائيل ويكرهون الشيعة. أما السبب في ذيوع هذه المعادلة، على الرغم من زيفها ورداءتها، فهو الفراغ الفكري الهائل الجاسم على عقولنا. ومقاومة هذا الزيف لا يكفيه الإيمان، ولو كان مكللاً بالمرجعية الدينية؛ فالمرجع الشيعي العراقي السيد علي السيستاني، بكل عظمة وهجه وسلطته الفكرية، لم يتمكن من إقناع ميليشيات «الحشد الشعبي»، الموالية لإيران، بالتخلّي عن مذهبيتها والالتحاق بالجيش الرسمي والكفّ عن ممارساته الشنيعة، ورفع العلم العراقي بدل الرايات والشعارات الفئوية والمذهبية. فيما الفكرة البديلة عن المذهبية أضعف من المرجعية بكثير، خارجة عن نطاق النظر أصلا؛ فيما الورثة الشرعيون لها، أي كافة أصناف الليبراليين واليساريين والتقدميين والعلمانيين والمتنورين، وحتى القوميين.. لا يستطيعون شيئا، لا تنظيرا ولا ممارسة. وفراغهم هذا هو الذي أفسح للمذهبية كل هذا المجال، كل هذه الحرية.

سادساً وأخيرا، وهي النقطة الأهم بالنسبة للأفراد الذين يجدون أنفسهم من بين أولئك الليبراليين واليساريين والتقدميين والعلمانيين والمتنورين القوميين، الذين لا يرون في هذه الحرب سوى الحد الأدنى المطلوب عربيا لدرء الخطر الإيراني عن بلدانهم… ان لا يتحولوا، كما تحول نظراؤهم من أتباع المليشيات المذهبية الإيرانية: رهط اليساريين والتقدميين والعلمانيين… الذين شكلوا واحدة من الحلقات غير الدينية الداعمة بجوارحها لهذا المحور، الذين ناصروا «الممانعة» و»المقاومة»، وانتهى بهم فشلهم الفكري بأن أبرزهم، وهو يساري علماني، كتب بعد «نجاح» المفاوضات الأميركية الإيرانية «لبّيك خامنئي!».

وأقصر الطرق لهكذا تحول، هو تسليمهم بأن هذه الحرب بين السنة والشيعة؛ فيكون بذلك إلتحاقهم المذهبي شبه مضمون. بالضبط كما هو حاصل مع يساريينا «الممانعين»، الذين لم يعودوا يخفون عصبيتهم، المزينة بقضايا الحق والحرية. فتكون هَزُلَت حتى آخر الفصول.

السابق
اثنان من سائقي الشاحنات عند معبر نصيب مفقودين والحكومة تكثّف اتصالاتها
التالي
سعود الفيصل: لسنا في حرب مع ايران