ذاكرة الحرب: آليّاتها والفاعلون في الحيّز العام

لوحة لأيمن بعلبكي.

جرى المركز الدولي للعدالة الانتقالية* استطلاعًا ميدانيًّا في بيروت الكبرى حول نظرة سكان بيروت الكبرى للحروب اللبنانية (1975 -1990) من خلال كلام أجيال مختلفة حول هذا المعيش الأليم. هدف الاستطلاع، كما جاء في التقرير الختامي، الى توثيق الطريقة التي يرى بها أفرادٌ من مختلف شرائح المجتمع اللبناني، المسائل المتعلّقة بالحقيقة والذاكرة والعدالة والمحاسبة والمصالحة والإنصاف الاجتماعي. التقرير مصمَّم للباحثين في العدالة الانتقاليّة ولواضعي السياسات وأعضاء المجتمع الذين يعملون على هذه القضايا.

تستند الدراسة الى 15 مناقشة دارت بين مجموعات (focus groups) في أحياء مختلفة من بيروت الكبرى بين 17 تمّوز و14 آب 2013. تشكلت المجموعات بحيث يتمّ التقاط التباين في التجارب المتعلّقة بالحرب وبين الأجيال، والنوع الإجتماعي ومستويات التعرّض للعنف المرتبط بالحرب. سعت النقاشات لإنشاء أسس تجريبيّة لكيفيّة إجراء الحوار في المجتمع اللبناني للتعامل مع عنف الماضي وعواقبه. تألّفت كلّ مجموعة من 6 إلى 8 مشاركين (من دون المشرفين)، واستمرّت النقاشات نحو 90 دقيقة، وتمّ إنعقادها في الحيّ الذي يقيم فيه حاليًّا المشاركون.

 
التوزّع الجغرافي
شملت الأحياء التّي ضمّتها الدراسة: الشيّاح/ حارة حريك (شيعيّ بشكل أساسي)، الأشرفيّة/ سن الفيل (مسيحيّ بشكل أساسي)، طريق الجديدة/ المزرعة (سنّي بشكل أساسي)، مخيّم برج البراجنة (فلسطينيّ سنّي بشكل اساسي)، الحمراء/رأس بيروت (مختلط من كلّ الطوائف الرئيسيّة وجميع الأقليّات الأخرى). تُعتبر بيروت الكبرى المنطقة الأكثر كثافة سكانية في لبنان وتضمّ عاصمة البلاد. هي تجمّع مدينيّ ساحليّ يضمّ بعض الهضاب القريبة، تبلغ مساحته نحو 60 كيلومترًا مربّعًا. وقد تمّ اختيار هذه الأحياء الخمسة للدراسة لأنها توفّر شريحة واسعة من المجتمع في بيروت الكبرى، كما تعكس المكوّنات الأساسيّة فيها، بما في ذلك الأحياء التي أصبحت متجانسة بشكل متزايد من حيث التكوين الطائفيّ (على سبيل المثل، الشّياح/ حارة حريك ومخيّم برج البراجنة)، وكذلك الأحياء غير المتجانسة نسبيًّا (الحمراء/ رأس بيروت).
على الرغم من اختلاف هذه الأحياء على المستويين الإجتماعيّ والإقتصاديّ، تتمتّع بالعديد من القواسم المشتركة. يكثر في الأشرفية والحمراء ورأس بيروت وفي وسط بيروت رجال الأعمال وأصحاب المهن الحرّة والأساتذة والتّجّار الناجحون وغيرهم ممّن ينتمون إلى الفئات الإجتماعيّة والاقتصاديّة العليا. فيما أولئك الذين يعيشون في ضواحي بيروت (مثل الشيّاح، حارة حريك، المزرعة، سن الفيل، وطريق الجديدة) ينتمون الى الفئات الوسطى والشرائح الدنيا من الفئات الوسطى والى الفئات الدنيا التي تعيش قريبا من الفقر أو أدنى.
تعتبر منطقة الحمراء/ رأس بيروت واحدة من أكبر الأحياء المختلطة طائفيًّا في لبنان. فهي متميّزة من حيث المؤهّلات التربويّة والحكوميّة، والتجاريّة، وتضمّ وزارات وجامعات (مثل الجامعة الأميركيّة في بيروت والجامعة اللبنانيّة الأميركيّة وجامعة هايكازيان)، ومراكز بحوث ومسارح ومحال تجاريّة تجذب الأقليّات والأجانب.
تم اختيار الأشرفيّة/ سن الفيل، المزرعة/ طريق الجديدة وحارة حريك/الشياح لأنّها تشكّل الأحياء الأكثر اتساعًا في بيروت الكبرى. كما أنها تتمتّع بكثافة سكّانيّة مرتفعة نسبيًّا، وبحياة تجاريّة مزدحمة، والأهم بالنسبة إلى الدراسة، تكوينها الطائفيّ المتجانس إلى حدّ كبير. يتمركز المسيحيّون في شرق بيروت في الأشرفية وسن الفيل، بينما يسكن السنّة في عدد من أحياء بيروت الغربيّة، ولا سيّما في المزرعة، المصيطبة، وطريق الجديدة، أمّا الشيعة فيتمركزون داخل بيروت في أحياء قريبة من وسطها وداخل الضاحية الجنوبيّة للعاصمة، ولا سيّما الشيّاح وحارة حريك.
يُعتبر مخيّم برج البراجنة في الضاحية الجنوبيّة من أكبر المخيّمات الفلسطينيّة في بيروت، وهو واحد من اثني عشر مخيّمًا يعيش فيها عشرات الألوف من الفلسطينيّين في ظروف صعبة. وقد تمّ اختيار مخيّم برج البراجنة لأنه كان مسرحًا رئيسيًّا للنزاع المسلّح خلال الحرب.

أجيال ما قبل الحرب وما بعدها
استلزمت طبيعة أعمال العنف المطوّلة والمتنوّعة في لبنان حساسيّة متفاوتة بين الأجيال تجاه التجارب. وقد تمّ تحديد الأجيال على النحو الآتي: الجيل الأصغر سنًّا، الذي لم يعش فترة الحرب. تتراوح هذه الفئة العمريّة بين 18 و27 عامًا، الجيل الأكبر سنًّا، الذي وُلد قبل الحرب، أو أثناءها، وتتراوح أعمار هذه الفئة بين 28 و60 عامًا.
تمّ تحديد المشاركين الذين تعرّضوا لأعمال العنف المرتبطة بالحرب وفق ما إذا كانوا قد تعرّضوا بشكل مباشر لهذه الأعمال أم بشكل غير مباشر. شمل تصنيف الأفراد الذين تعرّضوا مباشرةً إلى حال الحرب، أولئك الذين عانوا من العنف بأنفسهم أو عبر أحد أفراد الأسرة المباشرة (الزوج، والأولاد، والأشقّاء، والآباء، والأجداد، والأعمام، والعمّات، والأقارب) الذين قتلوا أو تعرّضوا لأعمال عنف خطيرة (مثل الاخفاء القسريّ وتدمير المنازل، أو التعرّض لنار قنّاصة). إلا أنّ هذا التصنيف لم يتضّمن حركة النزوح المرتبطة بالنزاع. نتيجةً لذلك، تم تحديد أولئك الذين نزحوا (و/أو أسرهم)، من دون أن يتعرّضوا مباشرةً لأعمال العنف الجسديّ، ضمن فئة المشاركين الذين تعرّضوا بشكل غير مباشر لأعمال العنف.
تمّ إعتماد فرضيّة مفادها أنّ تجربة أولئك الذين تعرّضوا مباشرةً لأعمال العنف تختلف عن تجربة أولئك الذين لم يتعرّضوا لها مباشرةً، وبذلك تتخذ الآراء والتوقعات حول التعامل مع الماضي شكلًا يتناسب مع مستوى التعرّض لأعمال العنف هذه.

النوع الإجتماعي
تشكّل علاقات القرابة الموسّعة والعلاقات الطبيعية الأبويّة عاملًا مهمًّا للحياة الإجتماعية في لبنان يؤثّر في دور النوع الإجتماعي في تجارب الحرب ونهج التعامل مع الماضي. بناء عليه، تمّ الإفتراض أنّ من الممكن أن تعبّر المرأة عن نفسها بشكل مختلفٍ إن وُجدت في بيئة مختلطة مما هي عليه الحال حين تكون في بيئة تضمّ إناثًا فقط. لذا، اقتصرت بعض المجموعات على الإناث فقط.

آلية عمل الذاكرة
تتكوّن ذاكرة الحرب من نوعين حسب المشاركين: من عايش الحرب خلال المدّة المتفق على تحديدها بين 1975 و1990، وكان هذا الفرد في سنّ تتيح له المعايشة والتذكر، فكانت تجاربه مباشرة. من جهة أخرى، الجماعات التي خاضت التجارب غير المباشرة، بل كانت وربما لا تزال، على تماسٍ معها من خلال روايات الجيل السابق.
كيف يتكلم الناس عن الحرب؟ الملاحظة الأولى اللافتة أن الحرب اللبنانية لا تنتمي إلى عالم الذاكرة لأنها لم تنتهِ؛ تالياً لا وجود لحال انقطاع في مسار ينتمي إلى ماضٍ تُعاد صياغة روايته في الحاضر، ضمن سياق نقل الذاكرة من جيل إلى جيل. “الحرب لم تنته بعد”، يقول أحدهم، وآخر يردد “التاريخ يعيد نفسه!”. هذا يعني أن العيش مع (وربما في) الحرب حال ليست لها بداية ولا يبدو أن لها نهاية. يقارن آخر بين ما يسمّيه “أجواء 75 وأجواء اليوم من إشارات وممارسات هي نفسها”.
الحرب المستمرّة لها أوجه متحوّلة وممسوخة. الحال هذه تصفها عبارات من نوع: “الحرب لم تنته حقًّا لكنّها تدخل فقط مرحلة جديدة من النزاع”، أو “بعدها نفس الشي بس بلا سلاح بعد”. إنّ أعمال العنف المرتبطة بالحرب تحوّلت الآن من أعمال عنف جسديّ الى أعمال عنف بنيويّة راسخة في مؤسّسات الدولة والنسيج الإجتماعيّ. “قبل، كانوا عم يشتغلو على فكرة مذهبيّة، بس هلأ عم يعملو حرب بطريقة غير مباشرة، حرب اقتصاديّة، حرب نفسيّة، حرب حقن مذهبي، حتى بالنسبة للشباب يلّي عم يحقنوا فيهن”.
واضح أن أجواء المجموعات لا تحاكي ذاكرة حرب 75-90، بل تحاكي الحاضر انطلاقًا من تداعيات الأفكار حول مفردتَي الحرب والعنف، تالياً، المعاناة. لذا تبدو الحرب معيشاً راهنا.
تعمل الذاكرة انطلاقًا من حوادث ووقائع راهنة وتعود إلى الماضي لتؤكّد عناصر الشبه وديمومة المسار. أوضح المشاركون الأصغر سنًّا كيف أنّ تقارير وسائل الإعلام عن أعمال العنف الحاليّة (خطف، سرقة، تبادل اطلاق نار، الخ.) غالبًا ما تصبح نقطة انطلاق لحديث الجيل الأكبر سنًّا عن الماضي. هذا ما شرحته إحدى المشاركات: “بس يصير شي، متل هلأ، بس يصير إنفجار – منتذكر بسنة كذا صار إنفجار- بسنة كذا صار كذا – بترجع الذاكرة لحالها”.
نلاحظ أن الحاضر هو “مفتاح تشغيل” للذاكرةstarter وهو يحرّك الماضي غير المختلف تمامًا عن الحاضر.
للجيل الذي عايشها، تعتبر الحرب تكيّفًا مع العنف. تكيّف ممزوج بالخوف والحذر وغياب الثقة والطمأنينة: “من ضلّنا عايشين بخوف”، يقول غالبية المشاركين، و”يلي بيضهر ممكن ما يرجع”. ثم يتحول الرعب من الحرب باعثا على ندب دائم “cicatrice”: “في إشيا بتستفزّ الإحساس البشري. مثلاً معقول يصير إشيا بتخوف كبير: حدا يعملك شي ببيّك أو بأمّك قدامك. هيدا الشي الإنسان ما بيحب أبداً يواجهه، عرفت؟ بتكون إنت رجّال مع عائلتك وولادك، بينزّلوك من السيارة، ببهدلوك. بغض النظر إذا هيدا الشي صار أو ما صار، بس مجرد الفكرة، بتضلّها معك للأبد”.
بالنسبة إلى الجيل الأصغر سنًّا الذي لم يعايش الوقائع، الحربُ هي أولاً غياب المعنى، منطقها خارج منطق الذين كانوا أولادًا ويتكلّمون عنها الآن. “فكرة الحرب وإنت بعدك صغير؟: شو يعني حرب؟ ما كنا نعرف. كنا نعرف إنّو أهلنا حطّونا بالسيارة، طلّعونا عالضيعة، مش عم نستوعب. لبعدين الواحد صار شوي يكبر، صار يفهم شو يعني حرب”، يقول شاب من ضاحية بيروت الجنوبية.
الحرب هلع الأهل وخوفهم. لكنها منَعَت الصغار من مسار طفولة أساسها اللعب، غير المتاح إلاّ في الملجأ. الصورة هي صورة الأب أو الأم المرتبكين، يحملان أطفالهما من مكان إلى مكان: “بتحس أنّو بدل ما كنت بطفولتك تقعد تلعب مثلاً، كنت تلعب بالملجأ. ننطر تيصير هدني حتى نلعب شوي. وبتلاقي أهلك عم يركضوا فيك من ميله لميله. يعني إنت ما عشت طفولتك، ما لعبت، ما عشت متل هالولاد يلّي لازم يلعبوا. ما في ثبات”.
هي ذاكرة الأهل المنقولة إلى الأولاد، التي تقض مضاجعهم أحلامًا وكوابيس. أشار معظم المشاركين من الأبناء الذين ولدوا بعد العام 1990 إلى أنّهم ورثوا ذاكرتهم عن الحرب، في المقام الأول، من الآباء وغيرهم من أفراد الأسرة والجيران. هذه القصص التّي تنتقل بين الأجيال الأكبر سنًّا، سلّطت الضوء على مشاعر وصور مهيمنة في وعيهم ولاوعيهم، كالدمار والندم والعبث. وأوضحت غالبية من المشاركين أنّ الذكريات المتعلّقة بالحرب غالبًا ما تكون مؤطّرة ومقطّرة من آبائهم لتثبيت المثل الشعبي: “تنذكر وما تنعاد”؛ ظنًا أن هذا يشجّع الجيل القادم على نبذ أعمال العنف.
ذاكرة الحرب ناقصة ومبتورة، كما يفيد عدد من المشاركين الذين ولدوا بعد العام 1990 ويؤكدون أنّهم يعرفون القليل جدًّا عن أعمال عنف الحرب اللبنانيّة لأنّ أسرهم تتجنّب الحديث عن تلك الفترة.
ذاكرة الحرب لا تزال ذاكرة متخيّلة لدى الذين عايشوها، وذاكرة منقولة شفويًّا لدى الأصغر سنًّا. وحين ناقش الشباب المشاركون التجارب المتعلّقة بالحرب، تحدثّوا عن الماضي من وجهة نظر أفراد الأسرة أو الجيران المباشرين. من جهة أخرى، يعتمد أولئك الذين ولدوا بعد العام 1990 على القصص التّي نُقلت إليهم (في التقليد الشفهيّ التاريخيّ القائم على ذوي القربى) وقصص الحرب المتداولة في الثقافة الشعبيّة.
نلاحظ أيضًا صعوبة، وربما استحالة، النقاش الأهليّ المدنيّ حول الماضي والمستقبل. في عدد من المناسبات، تردّد المشاركون في خوض نقاشات حول التعامل مع أعمال العنف في الماضي، حتّى أنّهم عبّروا عن انعدام أيّ أمل في ممارسة أيّ عمل من هذا القبيل نظرًا إلى الظروف الراهنة في لبنان. مشارك يلخّص هذا المزاج: “هيدا نقاش مفتوح ومش محسوم. هيدا النقاش بتسمعو كل يوم، من 5 سنين لليوم هوي ذاته. أنا برأيي مش هون السؤال. إذا كان السؤال عن كيف الحرب الأهلية بتخلص، لازم نبلّش نشعر إنّو كلنا متضررين كمواطنين  من الوضع القائم. كلّنا آخر شي عم نلاقي قدّامنا هيدا البلد عم ينهار، الإقتصاد، والسياحة، والأمن، والتربية، وبكل المعايير”.
مشهد الحرب لا يزال ماثلاً في مشاهد النزاعات الحالية، التي تخرج اللاعبين أنفسهم بالوضعية التصادميّة نفسها، اضافة الى المؤسسات العامة التي أضيفت الى لائحة المتدخّلين في الحرب.
تظهر الحرب أيضًا بمظهر مأساة الخسارة وفقدان الصحة والعمل والثروة، وخصوصًا النزوح والتهجير والتنقل القسريّ، ما يجعل الأمكنة والفضاءات خالية من الجذور وحسّ الإنتماء: “أنا عندي التهجير كان أصعب شي. بيتنا دغري على خطّ التماس على طريق صيدا القديمه. تركنا أكثر من 15 سنة. إنّو بيتك ما قادر ترجعلو! رحنا قعدنا بالضيعة، ورجعنا على بيت اختي. التهجير شغله كبيره. غير الأمن والإقتصاد، كان في تراكمات الأمراض النفسيه يلّي أدّت للحرب وإنتهاءها بهيدي الطريقة”.
النظرة إلى المستقبل واقعيّة وتعبّر عن “حكمة” الحسّ الشعبيّ لدى المواطن العاديّ: “لا جدوى من إعادة إحياء كلّ هذه الذكريات الأليمة إذ يحاول الجميع محوها من ذاكرتهم. لذلك دعونا ننسى ونسامح والوقت كفيلٌ بإصلاح الماضي”، تقول سيّدة من سن الفيل. “ينبغي التحرك ومعالجة هذا الموضوع. ففكرة مواصلة الحياة وكأن شيئًا لم يكن غير واردة. علينا مواجهة ماضينا مهما كلَّف الأمر”، يقول شاب من الحمراء.

التسامح والنسيان والمحاسبة
مسألتا “مواجهة الماضي” و”التسامح والنسيان” تبدوان المفارقتين الكبيرتين الأكثر تعقيدًا ومنهجيّة، لكن مواجهتهما غير معلومة. فها نحن في صدد حرب انتهت ولم تنتهِ، لم يكن هناك منتصر يصوغ الرواية ويضع أسساً للمحاسبة وللعقاب، وخاسرًا يقبل بشروط اللعبة الجديدة. أيّد المشاركون بأغلبيّة ساحقة خيار “مواجهة الماضي” وشكّكوا في صحّة الخيار البديل: “التسامح والنسيان”. “منشان ولادنا. لازم نواجه الماضي كرمالن”. هذا ما قالوه بوضوح ويطالبون بصياغة رواية الحرب: “لازم تدرّسن لولادك. التاريخ لازم ينكتب”، لأن “إذا نسينا بصير في تباعد”، و”بدنا نستعيد الذاكرة لنتعلم من أغلاطنا. ما فينا ننسى كل شي صار”. أما الحجج المعاكسة فتقول: “ما هني تلات ترباعن صارو ميتين. مش المفروض نتذكر. لازم نترك هيك ذكرى ورا ضهرنا. لأنّو كل ما بدّا تنذكر هيدي السيره العالم بدّا ترجع تكره بعضا”.
إذاً، ظهر في هذه النقاشات، انقسام في الآراء حول الدافع الأساسيّ لهذه الجهود، إذ اعتبرها بعضهم بمثابة عرض لجدول أعمال المحاسبة والمساءلة، بينما أصحاب النظرة الأدق شجّعوا عدم التكرار. أمّا بالنسبة إلى بعض المشاركين، فبقي الاعتقاد بأنّ التوضيح التاريخي الهادف الذي يشمل المساءلة والمحاسبة يكمن في هذه المناقشة بالذات. في المقابل، عبَّر مشاركون آخرون عن خوفهم من أنّ كثرة التركيز على الماضي قد تؤدّي إلى تجدّد أعمال العنف.
النظرة إلى المستقبل تطرح موضوع الفاعلين بين العام والأهليّ والمدنيّ. من يطلق عملية المصالحة والمسامحة؟ كيف تحدد الحاجة إلى الإعتراف بأخطاء الماضي؟ أنّ أيّ نوع من الإعتراف يقتضي التغلب على الإنقسام الطائفيّ. قال أدمون، وهو رجل في منتصف العمر من سكان منطقة سن الفيل: “لازم، بس من الصعب، يصير في معالجه. لأنو الناس اليوم محكومي طائفيًا، لهل السبب إذا الشعب ما توحّد ما بيطلع شي منّو”. تركّزت النقاشات على أيّ من الجهات تُلقى المسؤوليّة الرئيسيّة للإعتراف بأخطاء الماضي: الدولة أم الجماعات المحليّة أم المجتمع المدني؟
هناك من اعتبر “أنّ الإعتراف يجب أن يكون على صعيد المجتمع، غير أنّ العلاقات تصعَب تحقيقه”. وهناك من اعتبر “أنّ الإعتراف بأخطاء الماضي مهمّة الدولة وحدها: “لازم تصير في دولي مدنيه، وزواج مدني” يردد أحدهم. بمعنى آخر، الدولة هي الوحيدة التي تملك شرعيّة الاعتراف. كما بدا واضحًا أن الدولة هي الفاعل الرسمي، لكنها لا تحظى بالثقة والتفويض الضرورين للمساهمة في بناء الذاكرة المشتركة وإدارة المسار المجتمعي للعبور من الماضي نحو المستقبل.
من يضع أسس المحاسبة وقواعدها؟ واضح أن المشاركين في نقاشات الجماعات المركّزة لا يثقون بالدولة الفاشلة الحالية لإطلاق أيّ فكرة عمليّة حول ملفّ الحرب برمّته. واضح أيضًا أن عمل الذاكرة والتذكّر هو في منتهى الصعوبة حول ظاهرة اعتبرتها الغالبية مستمرّة ومتواصلة مع الحاضر. لا تقوم الذاكرة الجماعيّة إلاّ على الانقطاع بين ماضٍ واضح الى حدّ ما وحاضر له معالمه الملموسة.
في النهاية يبدو الفاعلون في عمليتَي المصالحة والمحاسبة، مجموعة قوى مجتمعيّة مبهمة، لكن لا بد من الركون اليها في انتظار “دولة أفضل”. تسمّى هذه المجموعة بمصطلحات معروفة من نوع “المجتمع المدنيّ” أو “المجتمع الأهليّ” أو “مؤسسات المجتمع المدنيّ ومنظماته”، الخ.

استنتاج أخير
السؤال المطروح: هل يمكن اطلاق عمليّة المصالحة والغفران، في المرحلة الراهنة، في ظل غياب مشروع الدولة وفي ظل الدولة الفاشلة القائمة الآن؟ يريد المشاركون ويتمنّون أن تلعب الدولة الدور الرئيسي، وهذا واضح من خلال الأجوبة والنقاشات. لكن غالبية كبيرة أشارت، بطريقة عفويّة، الى دور ما لمجتمع “مدنيّ”، وأُرفقت هذه الإشارة لدى البعض بـ”نحن المجتمع المدني”! هناك إذاً مسار ممكن، آنيًا، خارج الدولة، لإطلاق سيرورة مجتمعيّة نحو الحوار التصالحي. أطراف هذا الحوار هم: جمعيات متخصّصة بمواضيع إعادة البناء في مراحل ما بعد الحروب والنزاعات، هيئات المجتمع المنتخبة التي لا غبار على شرعيّة تمثيلها، هيئات دوليّة تلعب دور الداعم والمنشّط لهذا النوع من السيرورات، البحّاثة والمثقفون.
لا بد من ملاحظة هنا: الأدوار البالغة الأهميّة لعاملي المعرفة الموضوعيّة والثقافة. يختصّ الباحثون في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة بالمعرفة الموضوعيّة. والحال المثلى تكون بإنشاء مركز متخصّص، الأفضل خارج لبنان، هو “مركز دراسات وأبحاث حول الحرب اللبنانيّة”، يعنى بإنتاج المعلومات وتوثيقها وكتابة الروايات الممكنة لهذه المأساة. أمّا الثقافة، فهي في تعزيز ما هو قائم حاليًا، واطلاق ثقافة ابداعيّة، متعدّدة الاهتمامات الفنيّة والفكريّة لتكوين مشروع ثقافي مضاد لثقافة الموت ومبني على احترام الفرد وحريّته.

* المركز الدولي للعدالة الانتقالية منظمة دولية غير حكومية، متخصّصة بمجال العدالة الانتقالية، ويعمل على مساعدة المجتمعات التي تمرّ بمرحلة انتقالية في معالجة إرث الماضي، من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبناء الثقة المدنية في مؤسسات الدولة كحاميةٍ لحقوقه. وعند وقوع الانتهاكات الجسيمة والقمع، يساعد المركز المؤسسات، ومنظمات المجتمع المدني – الأفراد الذين يقودون التغيير في مجتمعاتهم ويرسمون ملامحه – في دراسة التدابير التي تسمح بالتوصّل إلى الحقيقة، والمحاسبة والتعويض عن الانتهاكات الماضية، ويكون ذلك بتقديم الخبرة التقنية والمعرفة المستندة إلى تجارب مماثلة ذات صلة بمجال العدالة الانتقالية من شتّى أنحاء العالم.

(النهار)

السابق
انزلاق آلية لليونيفيل على طريق ديرميماس الخردلي
التالي
بالصور: فيض النور من قبر السيد المسيح في كنيسة القيامة