المفقودون جرح لم تشفه «وثائق الكذب الرسمي»

يشذّ لبنان، بعد أربعين عاماً على اندلاع الحرب اللبنانية، عن معظم البلدان التي عاشت حروباً مماثلة، وقد أقفلت جروحها عبر عقد مصالحات وطنية، كلٌّ وفق ظروفه.
وحدها الحرب الأهلية اللبنانية بقيت هنا، في قلوب وحيوات ذوي المفقودين والمخطوفين إبّان الحرب التي امتدت رسمياً من العام 1975 لغاية العام 1990. الحرب نفسها، يقول أهالي المفقودين، إنها لن تنتهي بالنسبة إليهم، ما داموا لم يحصلوا على حق معرفة مصير أحبتهم.
جرح الحرب في يوغوسلافيا السابقة أقفل على ثلاثين ألف مفقود ومخطوف تم تحديد هويات عشرين ألفاً منهم، والبحث جار عن البقية.
العراق، فقد نحو 500 ألف شخص في الحرب العراقية الإيرانية حتى الاحتلال الأميركي. مع ذلك، ينجح العراق، وفق مسؤول ملف المفقودين في اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بيروت فابيان بوردييه، في تحديد هويات المئات من أبنائه سنوياً، وهو ماضٍ في سعيه لإقفال الملف.
يقول بوردييه إن لبنان «يعتبر استثناء (مع أسبانيا) في عدم حلّ ملف المفقودين والمخطوفين خلال الحرب الأهلية.
وثائق الكذب
بعد 40 عاماً على اندلاع الحرب الأهلية و25 عاماً على توقفها، لم تقم الدولة اللبنانية حتى بتشكيل لجنة رسمية للوصول بملف المفقودين إلى خواتيمه بما يؤمن حق المعرفة لذويهم، وفق ما تنص عليه الاتفاقيات الدولية المعنية التي صدّق عليها لبنان».
قاد أهالي المفقودين، وحدهم، حراكاً تلو آخر منذ ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن، منتزعين بعض المكاسب وأهمها إرغام الدولة على تسليمهم ملف تحقيقات اللجنة الرسمية التي تشكلت في العام 2000. الملف نفسه عاد الأهالي ووصفوه بـ «وثائق الكذب»، لكونه خالياً من أي معلومات جدية تؤمن حقهم بمعرفة مصير ذويهم.
اقتصرت الخطوات الرسمية على تشكيل ثلاث لجان تحت عنوان التحقيق بالملف، ولكن جميعها لم تخرج بنتائج تذكر. وجاءت نتائج لجنة العام 2000 لتوعز لذوي المفقودين بتوفية أحبائهم وهو ما رفضه معظمهم لكونهم لا يملكون أي وثائق أو أدلة تثبت ذلك، ومنعاً للسماح للدولة بالتنصّل من مسؤولياتها، وإقفال الملف. وربط الأهالي إيعازها لهم بتوفية المفقودين باعترافها بوجود مقابر جماعية.
عيّنات الحمض النووي
انسحبت إدارة الظهر الرسمية عن ملف المفقودين على عدم إقرار مجلس الوزراء ورقة التفاهم مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بيروت لجمع عينات الحمض النووي من ذوي المفقودين لمطابقتها مع تلك الخاصة بالمفقودين في حال تمّ نبش المقابر الجماعية يوماً ما. يهدف جمع العينات إلى حفظ هويات العائلات، إذ بدأ عديد الأهالي بالتناقص بسبب وفاة بعضهم. وبالتالي، يصبح الخوف مشروعاً من اندثار بعض عائلات المفقودين، مما يمنع تحديد هوياتهم لاحقاً.
مع ذلك، يقول بوردييه لـ «السفير» بديبلوماسية موظفي المنظمات الأممية، إن اللجنة الدولية «أودعت حكومة الرئيس ميقاتي في العام 2012 ورقة التفاهم الخاصة بجمع وتخزين عينات الحمض النووي لعائلات المفقودين، ولكن مع تغيّر تلك الحكومة وعدم تشكيل أخرى لشهور عدة، لم يتم إقرار تلك الورقة التي تسمح للصليب الأحمر الدولي باستكمال المشروع».
ويؤكد بوردييه أن اللجنة تعتمد اليوم طريقاً آخر لاستكمال مشروع جمع العينات، وهو توقيع ورقة تفاهم مع وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي «بدا متعاوناً جداً ومتجاوباً»، وفق بوردييه. والتقى رئيس اللجنة في جنيف وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل خلال وجوده مؤخراً في سويسرا، وتباحث معه في الموضوع. وقبل نحو 15 يوماً أرسلت وزارة الخارجية كتاباً إلى اللجنة الدولية في بيروت تعلمها موافقتها على الخطوة.
عليه ستكمل اللجنة، وفق بوردييه، عملها مع وزير الداخلية نهاد المشنوق تمهيداً لطرحه الورقة في مجلس الوزراء في أقرب وقت ممكن.
مشروع ومراحل
يعتبر مشروع جمع العينات المرحلة الثانية من المشروع الأساسي للمفقودين، الذي تعمل عليه اللجنة الدولية في لبنان منذ ثلاث سنوات.
تتركز المرحلة الأولى من المشروع على «جمع بيانات ما قبل الاختفاء» الخاصة بالمفقودين عبر عائلاتهم وذويهم. ويشمل جمع البيانات المتعلقة بالمفقود في فترة ما قبل الاختفاء، وما يحيط بظروف الاختفاء، ومعلومات خاصة عنه.
وتهدف اللجنة من الخطوة إلى الحفاظ على البيانات المخزنة الخاصة بالمفقودين بغية الحفاظ عليها وإدارتها لاستخدامها عند الحاجة خلال تنفيذ آلية الكشف عن مصيرهم. وينفذ المشروع عشرون موظفاً متفرغاً في اللجنة.
وكانت اللجنة قد بدأت عملها خلال الحرب الأهلية، إذ كان الأهالي، وفق بوردييه، «يأتون إلينا ويبلغوننا عن فقدان أحد أفراد عائلاتهم. وكنا نتواصل مع الميليشيات والأطراف المعنية جميعها والموجودين على الحواجز، وننجح أحياناً في تحديد مكان هذا المفقود أو ذاك، ونؤمن تواصل للعائلات مع من نجدهم». وأحياناً، لم تنجح اللجنة في الحصول على معلومات تشير إلى مصير الشخص المفقود، «لا بعد يوم ولا شهر ولا سنة ولا بعد ثلاثين أو أربعين سنة».
وبعد الحرب، تركزت مهمة اللجنة على استكمال العمل على ملف المفقودين، ولكن للأسف «لا يوجد في لبنان أي لجنة رسمية أو وزارة مختصة أو حتى إدارة تهتم بالموضوع، كما هي الحال في بلدان أخرى عاشت حروباً مماثلة»، وفق بوردييه. وعليه، «اقتصر تعاون اللجنة على منظمات المجتمع المدني وفي مقدمها لجنة أهالي المفقودين وجمعية سوليد».
وتجمع اللجنة معلومات عن المفقودين منذ أيار 2012، إذ يقوم فريق عملها بزيارة ذوي المفقودين ما بين العام 1975 و2005، في المناطق اللبنانية، وإجراء مقابلات معمّقة وتفصيلية معهم. تشمل المقابلة أسئلة «عما حصل يوم الاختفاء، وظروف الاختفاء، ومتى آخر مرة شوهد فيها المفقود، وماذا كان يلبس وما هو تاريخه الطبي ووضع أسنانه وهل هناك كسور أو علامات فارقة في جسده». ويتم إدخال هذه المعلومات ضمن قاعدة بيانات خاصة بالمفقودين، وتخزين هذه المعلومات في اللجنة الدولية للإفادة منها في حال استكمال الملف ونبش المقابر الجماعية ليتم استعمالها في جانب اللجنة الوطنية في حال تشكيلها.
وتم حتى الآن إنجاز 1800 مقابلة، شملت نحو 1800 مفقود. وبيّنت المقابلات أن هناك في بعض الحالات أكثر من مفقود في العائلة الواحدة، وقد يصل عدد المفقودين إلى ثلاثة أو أربعة أشخاص. وهناك عدد من العائلات فقدت بكاملها.
تشكيك
وعبّر بوردييه عن أسفه لعدم وجود إحصاءات دقيقة لأعداد المفقودين في لبنان. وحصلت اللجنة على «بعض الأرقام من لجنة أهالي المفقودين وسوليد. ويشكك بوردييه في رقم 17 ألف مفقود: «تم الحصول عليه من قوى الأمن الداخلي، وهو مجموع ما تم التبليغ عن اختفائهم، وقد يكون بعضهم قد عاد أو عثر عليه، ولكنه بقي ضمن الإحصاءات كمفقود». وعبر عن اعتقاده «أن الرقم أقل من ذلك، وبالرغم من ذلك ليس لدينا الرقم الدقيق حتى الآن».
يضيف: «يتصل فريق عمل اللجنة بجميع المخاتير على الأراضي اللبنانية، ويسأل عن المفقودين والمخطوفين في مناطقهم. ونتصل بالعائلات ونسأل إذا كانوا يرغبون بمقابلتنا وأحياناً يعطينا أهالي المفقودين أسماء عائلات مفقودين آخرين».
و«لتكوين قاعدة بيانية كاملة»، يقول بوردييه، «علينا جمع عينات الحمض النووي من عائلات وأقارب المفقودين، لأن الحمض النووي يؤكد المعلومات الأولى، ويساهم بتحديد الهويات. وسيتم الاحتفاظ بعينات من الحمض النووي للعائلات (يتم جمع نحو أربع عينات من العائلة في حال توافر الأشخاص المناسبين) في مركز اللجنة الدولية للصليب الأحمر في جنيف وبيروت، مع السلطات المختصة. وتحرص اللجنة، وفق بوردييه، على مشاركة عينات الحمض النووي مع الدولة اللبنانية، مع استعدادها التام لتقديم الاستشارات التقنية، ووضع خبرة فريق عملها في تصرفها، إذ يوجد لدى وزارة الداخلية مختبر متطور في تحليل عينات الحمض النووي وتحديدها.
واعتبر بوردييه أن عدم إقرار مجلس الوزراء مشروع جمع عينات الحمض النووي «سيشكل صدمة لذوي المفقودين»، آملاً أن «يتجاوب لبنان مع الخطوة وفي مجمل قضية تأمين حق المعرفة لذوي المفقودين وحلّ ملفهم التزاماً بالقانون الإنساني الدولي الذي وقع عليه وصادقه».
أما المرحلة الثالثة من العمل على ملف المنفقودين فتكمن في تحديد حاجات ذويهم على الصعد الطبية والنفسية والاجتماعية والمادية، ونحن نسعى لتلبية هذه الحاجات بالتنسيق مع الوزارات المعنية ومنظمات من المجتمع المدني.
وتنفذ اللجنة مشروعاً نموذجياً لهذا المشروع في صيدا حيث يوجد 140 مفقوداً، وهي مختلطة وليست كبيرة جداً.

(السفير)

السابق
تريد الحصول على الجنسية الاميركية … تزوجها
التالي
عيد البوسطة