«بلا تشفير» أو كيف نتصالح مع الهراء

وسط ديكور يطغى عليه اللون الأسود، وإضاءة خافتة، تجلس الضيفة على كرسي، يقف المذيع خلفها، لاعباً دور الضمير الحيّ. يسألها: «هل أنت امرأة غير مسؤولة؟ تعتبرين نفسك امرأة مسؤولة؟ تعيشين أم لا بمسؤولية؟ هل يجب أن تكون المرأة المسؤولة راقية في اختيار عباراتها؟». وعندما ينتهي من وصلته حول «المرأة المسؤولة»، ينتقل إلى أسئلة ضَمِن أن تكون بقسوتها، قادرةً على جعلها تبكي. يقول: «هل لديك عقل تفكرين به؟ هل تفكرين قبل التصرّف؟ هل عرض الأزياء مهنة شريفة؟ هل أنت امرأة صالحة للزواج؟ هل أنت زوجة صالحة؟ والدك الطبيب المشهور فخور فيك؟ ما الذي يشعر به حين يرى صورك؟ هل ضجرت من كثرة علاقاتك قبل الزواج؟ هل تتاجرين بابنك؟ هل أنت مصابة بانفصام في الشخصيّة؟».
تلك عيّنة من الأسئلة التي وجد الإعلامي «الجريء» تمام بليق أن لا ضير في طرحها على ضيفته، عارضة الأزياء جويل حاتم، في حلقة أمس الأوّل من برنامج «بلا تشفير» على «الجديد». خلال ساعة هي مدّة الحلقة، كان من يريد ومن لا يريد أن يعرف، قد اطّلع على كلّ ما يدور خلف جدران منزل حاتم، وحتى على نوع مضاد الاكتئاب الذي تتناوله.
تحوّلت حاتم خلال الأسابيع الماضية إلى حديث البلد، بشرهها الواضح إلى لفت النظر ونيل الاهتمام، سواء عبر نشر أسرارها العائليّة على مواقع التواصل، أو عبر الموافقة على إجراء عدّة مقابلات حول علاقتها بزوجها المغنّي جورج الراسي. هكذا شهدنا، ومن دون أيّ شعور بالدهشة للمفارقة، خلافاً زوجياً وقد تحوّل إلى قضيّة رأي عام. لا نسأل هنا عمّا إذا كانت حاتم أثبتت أهليّة في التصرّف مع ابنها ذي الأشهر الخمسة، حين وضعته في عين عاصفة إعلاميّة، وهو في سنّ لا تخوّله الاعتراض على بثّ قصته تلفزيونياً. ولا نسأل هنا عن الفتاوى التي راحت تنهال على «تويتر» حول مَن بين الزوجين على حقّ. نسأل هنا، بأيّ حقّ، يجد برنامج تلفزيوني أنّه من الطبيعي أن يسأل امرأة على الملأ، «هل أنت أمّ صالحة»، و»هل والدك يخجل بك»، و»هل أنت مريضة نفسيّة»، و»هل مهنتك شريفة»، و»هل تتاجرين بابنك»؟ أيّ إعلام ذلك الذي يقبل بهذا الإذلال العلنيّ لأيّ فرد، سواء قدِمَ بإرادته لإجراء المقابلة أم لا؟ وأيّ جمهور ذلك الذي لا يتوانى عن المشاركة في محاكمة علنيّة، في شأن عائليّ لا دخل لأحد به أساساً؟
بعد ساعات على عرض البرنامج، احتفت صفحته على «فايسبوك» بمعدّل المشاهدة العالية الذي نالته الحلقة. كتبت الصفحة: «للأسبوع السابع على التوالي يتصدّر برنامج «بلا تشفير» (نسب مشاهدة البرامج) ليلة اﻷربعاء بين كلّ الشاشات اللبنانيّة. شكراً على الثقة. اﻷربعاء المقبل أيضاً حلقة غير كلّ الحلقات. كونوا على الموعد». ليست سابقة إذاً، أن يتحلّق مشاهدون كثر لمتابعة إعلاميّ يسأل ضيوفه عن الوضعيّات الجنسيّة التي يفضّلونها، وما إذا كانت صحّتهم العقليّة على خير ما يرام. ليست سابقة، ولكن، لم يشأ البرنامج تفويت فرصة مماثلة للاحتفال، وتذكير المنافسين، بأنّ ليلة الاثنين لم تعد كافية لترسيخ استباحة الخصوصيّات كفنّ تلفزيونيّ لبنانيّ أصيل. ولماذا يتردّد بليق في تجاوز الحدود، وغيره من المذيعين والمذيعات سبقوه بكلّ ثقة إلى لعب دور القاضي، والحكم، والمحامي، والطبيب النفسي، والمحقّق، والشرطي، والواعظ؟ ولماذا يتردّد في إذلال جويل حاتم إن كان سبق له وفعل الأمر ذاته مع ضيوف آخرين، مثل مريم نور، وليال عبود، وها هو يعدنا بالمزيد في حلقات مقبلة؟
لا جديد في حلقة جويل حاتم مع «بلا تشفير»، سوى التأكيد على أنّ التجربة التلفزيونيّة اللبنانيّة، تجاوزت بأشواط سؤال «ما الذي يستحقّ أن يُعرض وينال الاهتمام؟» ذلك سؤال بات خارج السياق، أمام معجزات التفاهة التي تجترحها قنواتنا. فلا قانون ولا أخلاق مهنيّة ولا حتّى فطرة سليمة، تجعل تلك القنوات قادرة على التمييز بين المباح وغير المباح. بمنطق تمام بليق، وغيره من ملوك الساحة اليوم، الجميع موضوع قابل للمحاكمة، والسخرية، والتشهير، والجميع لديه كلام مهمّ وحصري وجديد ليقوله، ولنسمعه، في جلسات تلفزيونيّة تريد منّا أن نتصالح مع الهراء، وأن نعتاد في كلّ مرّة على جرعة أكبر منه. المبرّرات دوماً جاهزة: الهراء هو السرّ في رفع نسب المشاهدة، ونسب المشاهدة حقّ للتلفزيونات الواقعة في ضائقة إعلانيّة وماليّة، والمال ضرورة لاستقلاليّة إعلامنا الحرّ. إعلامنا الحرّ (فقط) في عرض ما يشاء تحت عنوان الترفيه، ولكن المرتهن في المقابل ــ وباعتراف أهله المتصالحين مع هذا الواقع بالمناسبة ــ للسلطة والمال، ولشروط السوق، ولشركات الإحصاء، ولمزاج الشارع، وللظرف السياسي، وللمرجعيّات الدينيّة، ولسفراء الدول الصديقة والشقيقة… لا مكان لكيّ يفجّر إعلامنا الحرّ حريّته، إلا في المناداة على الفضيحة. وفوق ذلك، تعمل القنوات اللبنانيّة جديّاً للاتحاد ضمن باقة مشفّرة، يدفع الناس اشتراكاً مالياً (بشكل مباشر أو غير مباشر) مقابل مشاهدتها. وعلى ماذا يحصلون بالمقابل؟ على برمجة بمنتهى «الروعة»، زاخرة بأشياء على نمط «بلا تشفير» وأخواته.

(السفير)

السابق
لهذا السبب لا تدع طفلك يتذوّق الكحول
التالي
مفتي عام السعودية: فتوى أكل لحم المرأة كذب وافتراء لتشويه الاسلام