القاضي الأيوبى يتحدّث عن «السلطة القضائية» في مؤسسة الإمام الحكيم

استضاف منتدى الأربعاء في مؤسسة الإمام الحكيم القاضي أحمد الأيوبي رئيس المحكمة الابتدائية في المتن في لقاء حواري تحت عنوان “السلطة القضائية في ميزان السلطات الدستورية” بحضور حشد من الشخصيات الدينية والأكاديمية والإعلامية..

قدّم اللقاء وأداره المحامي الأستاذ بلال الحسيني..

ثم تحدث بعدها القاضي أحمد الأيوبي ومما قاله:
في البداية لا بد من أن أشكر مؤسسة الإمام الحكيم على هذه الدعوة..
سأتطرق في هذه الندوة الحوارية إلى موضوع أعتبره من أهم المواضيع المفصلية في حياة الأوطان وفي حياة أي دولة، إذ لا قيام لأية دولة إذا لم تكن السلطة القضائية فيها، تمارس دورها المرسوم دستورياً ومهمتها وغايتها المنشودة لكي يعم العدل في المجتمع.. وسأبدأ بتأصيل بسيط لموقع السلطة القضائية، ومقاربتها من قبل السلطة التنفيذية والتشريعية..

من حيث المبدأ، يُقال إن هناك صراعاً دائماً بين قوى الخير والشر في دائرة الكون، وهذا الصراع قد وجد منذ الأزل مع بداية تكّون المجتمعات.. وكان هذا الصراع يحتاج إلى أداة تمكّن من خلاله قوى الخير من السيطرة ومن تحجيم ومحاسبة قوى الشر التي تريد أن تعبث بأمن المجتمعات وبالسلام الإنساني.. فنشأت نظرية الدولة التي هي الأداة الضاربة في يد قوى الخير، من أجل أن تُصارع قوى الشر ومن أجل أن يُعم السلام في أي مجتمعٍ من المجتمعات.. فكان الاتفاق منذ أيام “أرسطو” على أن تقام الدولة على ركائز وأعمدة ثلاث وهي: السلطة التشريعية، التنفيذية والقضائية..
غاية هذا المثلث الدستوري وهذا التقسيم القضائي هي:

أولاً، أن يكون هناك جهاز يُنشئ القاعدة القانونية ويتولى بلورتها في المجتمع..
ثانياً، أن يكون هناك جهاز يدير دفة الحكم، عن طريق ما يسمى “السلطة التنفيذية” التي يُناط بها الإدارة السياسية للحكم..
ثالثاً، السلطة القضائية التي تتولى فصل النزاعات وتطبيق القوانين على الناس..

من هنا، أُطلق مبدأ فصل السلطات، ومن هنا كانت الحكمة في أن يكون الجهاز الذي يُنشئ القاعدة لا يسيطر ولا يهيمن على الجهاز الذي يريد أن يطبق القاعدة ويفض النزاع، لكي لا نقع في ما يسمى “حصرية السلطة” أو حسب ما يسمى بالمصطلح الحديث “الدكتاتورية”، حيث يتم تركيز السلطات بيد شخص واحد، وهذا التركيز يؤدي إلى منع قيام الدولة..

وهنا، أود أن أُشدد على أن الحوار الذي كان قائماً حول: كيف يمكن أن تمارس هذه السلطات الثلاث؟ هل تمارس عن طريق أهواء شخصٍ أم عن طريق آراء شخاص أم عن طريق قائد مجرد من الهوى؟.. فجاءت مقولة لأرسطو تقول: “إن اتباع قائد مجرد من الأهواء أكثر أماناً من اتباع قائد تكون الأهواء داخلة في تكوينه، والقانون مجرد من الأهواء”..

وعلى هذا الأساس استُخدم مصطلح “القانون” إلى جانب الدولة، فأصبح الحديث المتعارف عليه عن “دولة القانون”، وأصبح المصطلح راسخاً في المجتمعات القانونية حيث نتحدث عن “دولة القانون”، وإن أقرب سلطة لصيقة بدولة القانون هي السلطة القضائية، لأن السلطة التنفيذية بما يُعهد إليها من إدارة سياسية للبلاد، هي مخولة بأن تحقق أحلام الشعوب والازدهار الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي والديمقراطي.. بينما السلطة التشريعية هي مهيأة لكي تصنع القوانين الملائمة للمجتمعات..

أما السلطة القضائية، فهي السلطة اللصيقة بمفهوم العدالة والقانون، لأنه من خلال هذه السلطة ومن خلال أدائها وممارستها لمهامها؛ يستطيع أن يشعر المواطن بأنه في أمن اجتماعي وأمن قانوني وبأنه متساوٍ مع أخيه في المواطنية.. وعلى هذا الأساس، كانت جميع حضارات الشعوب والمجتمعات الحديثة، تشدد على دور وأهمية السلطة القضائية وعلى أن السلطة القضائية هي الركن الركين في قيام دولة القانون، ولا يمكن تصور قيام هذه الدولة دون أن يكون هناك سلطة قضائية فاعلة تؤدي دورها على أكمل وجه..

وأكد القاضي الأيوبي: يجب أن لا يكون فصل السلطة القضائية عن باقي السلطات فصلاً جامداً، وإنما فصلاً قائماً على التوازن والتعاون.. فالتوازن ضروري كي لا نقع في هرمية السلطة التشريعية على السلطة القضائية، أو هرمية السلطة التفيذية على السلطة القضائية.. وكي لا يُصار إلى هيمنة سلطة على أخرى، فلا السلطة التشريعية تهيمن على السلطة القضائية، ولا السلطة التنفيذية تهيمن على هذه السلطة.. أما التعاون، فلأن هذه السلطات الثلاث ـ سواء كانت السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية أو القضائية ـ هي أذرعة ضاربة في خدمة دولة القانون، فكل سلطة من هذه السلطات تتعاون في سبيل قيام دولة القانون، لأن هذا هو الهدف المنشود من تكوين الدولة ومن قيام السلطات الثلاث فيه..

وأشار الأيوبي إلى أن الإشكالية التي تطرح في الحياة العملية وفي الأنظمة القانونية في لبنان والدول العربية تتركز حول: هل أن السلطة القضائية هي فعلاً سلطة دستورية شاءت هذه الدول أن تكون سلطة مستقلة عن باقي السلطات وتؤدي الدور المنوط بها أم لا؟.. فعندما نقول إن هناك سلطة مستقلة، فيعني ذلك أنه يجب أن تكون هذه السلطة حرة في تشكيل الأجهزة التابعة لها، وعندما نقول إن السلطة يجب أن تكون مستقلة، فيعني ذلك أنه يجب أن يكون لهذه السلطة القدرة على تأدية الدور الذي وضعت ووجدت من أجله..
وأكمل القاضي الأيوبي مستعرضاً دور السلطة القضائية:
من الناحية العملية لا يمكن أن نقول إن هناك دور واحد للسلطة القضائية، بل هناك أدوار متعددة منها:

أولاً، مكافحة الجريمة في المجتمع عن طريق الملاحقة والتحقيق والحكم..
ثانياً، أن تتمكن هذه السلطة من مراقبة حُسن سير الحياة الدستورية، وأن تمنع خرق الدستور والخيانة العظمى..
ثالثاً، أن تتمكن هذه السلطة من ممارسة السلطة التقديرية المنوطة بها لأداء دورها على أرض الواقع..

على المستوى العملي، نبدأ من دور القضاء في مكافحة الجرائم المالية.. هناك ما يسمى بالأمن الاقتصادي في المجتمع، فلا يمكن أن يكون هناك مجتمع يعيش بسلام وعدالة وأمن، إذا لم يكن هناك أمن اقتصادي.. إذ أن هناك علاقة وطيدة بين السياسة والاقتصاد، بين السياسة العالمية والاقتصاد العالمي، بين التوجهات الاقتصادية في العالم والتوجهات السياسية، لا بل هناك صلة وثيقة جداً لدور الاقتصاد في العديد من الحروب التي نشبت والتي سوف تنشب في المنطقة أو في العالم (لا قدر الله)..

وبالعودة إلى بعض النصوص القانونية في لبنان حول دور القضاء في مجال الأمن الاقتصادي، نجد أن المادة (20) من قانون أصول المحاكمات الجزائية تنص على أن لا تجري الملاحقة في الجرائم المصرفية الناجمة عن مخالفة قانون النقد والتسليف إلا بناءً على طلبٍ خطيٍّ من حاكم مصرف لبنان.. وكذلك في المادة الثانية من قانون “السرية المصرفية في لبنان” والتي تنص على أن مديري ومستخدمي المصارف وكلُ من له اطلاع بحكم صفته أو وظيفته أو بأية طريقة كانت على قيود الدفاتر والمعاملات والمراسلات المصرفية، يُلزمون السر إطلاقاً لمصلحة هذه المصارف من ناحية إفشاء ما يعرفونه عن أسماء الزبائن وأموالهم والامور المتعلقة بهم لأي شخصٍ فرداً كان أم سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية.. وبموجب هذين النصين، فإن قانون السرية المصرفية ينسحب على السلطة القضائية إذ أن السرية المصرفية تعني سرية المعلومات حتى على القضاء، وأن النائب العام المالي لا يحق له أن يتحرك بالجرائم المالية إلا بناءً على كتاب خطي من حاكم مصرف لبنان..

وتسائل: كيف يمكن أن يعم الأمن الاقتصادي في بلد تكبّل فيه يد السلطة القضائية عن ملاحقة الجرائم ذات الطابع المالي؛ فلا أستطيع بكوني مدعي عام أن ألاحق مجرماً إلا إذا كنت حاكم مصرف لبنان، ولا أستطيع أن أحقق بجرائم تبييض الأموال كقضاء لأن هذا الأمر منوط بلجنة تحقيق خاصة.. فإذاً هذا نوع من التغطية التشريعية لكل ما يخلّ بالأمن الاقتصادي يؤدي إلى شل يد السلطة القضائية عن أداء دورها في مجال مكافحة الجرائم المصرفية والجرائم المالية..

أما عن دور القضاء في مكافحة جرائم الإرهاب والجرائم الكبرى تحدث القاضي الأيوبي:
يوجد في لبنان ما يسمى “المجلس العدلي” المختص بدعاوى الإرهاب وجرائم أخرى محددة في القانون، وفي المقابل أعطيت الاختصاصات ذاتها لمحكمة تدعى “المحكمة العسكرية”، وهذه المحكمة لها اختصاص أيضاً في مجال الجرائم التي تصنّف بـ “جرائم إرهاب” أو جرائم تمس بأمن الدولة الداخلية والخارجية على وجه العموم.. نجد أن هذه المحاكم لا يُشترط في من يكون مستشاراً فيها أو رئيساً لها أن يحمل الإجازة في القانون حتى الوقت الراهن.. إذ يمكن أن يكون رئيس المحكمة العسكرية والمستشار في المحكمة العسكرية غير مجاز في القانون وله حق لفظ عقوبة الإعدام وهو ينظر في الجرائم الكبرى الماسة بأمن الدولة، كما لا يتعين عليها تعليل أحكامها على نمط التعليل المعتمد من قبل القضاء العادل!.. وبالإضافة إلى ذلك، فإن إحالة أي ملف إلى المجلس العدلي في لبنان أمرٌ مناط بالسلطة التقديرية لمجلس الوزراء، وهو الذي يقرر الإحالة أو عدم الإحالة بحسب المناخ السياسي في البلد وبحسب الفريق الحاكم، وبحسب توجهات السلطة السياسية التي تتولى إدارة الأمور في البلد..

وبناءً عليه، أين دور القضاء في مكافحة الجريمة في المجتمع إن كانت هذه هي التركيبة القائمة، وإن كانت المحاكم لا يتولاها أشخاص قد أتموا دراساتهم القانونية ولهم الخبرة القانونية الكافية في هذا المجال؟..

أين يمكن أن نكافح الجريمة إذا كان هناك إمكانية لأن يكون ذات المتهم بحسب مزاج السلطة السياسية يحاكم أمام المجلس العدلي أم أمام القضاء العسكري.. هذا يؤكد على أن النصوص القانونية المرعية الإجراء والنافذة في الوقت الحاضر، هي نصوص من شأنها أن تَشل عمل السلطة القضائية في مكافحة جرائم الإرهاب في المجتمع..

أما عن تشكيل المحاكم فأوضح الأيوبي: إن العديد من المحاكم في لبنان كالمجلس الدستوري والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤوساء والوزراء تُشكّل من قبل السلطة التنفيذية والتشريعية، وأن المراكز القضائية الأولى يتم تعيين القضاة وإسناد مهامهم فيها بناءً على مراسيم وعلى قرارات تصدر من مجلس الوزراء.. فإذاً كل التعيينات المرتبطة بعمل السلّة القضائية تعود للسلطة التنفيذية..

وفي الختام: إذا ما استعرضنا كل هذا الوضع، فأصبح واضحاً أن مَن ينتقد السلطة القضائية في الوقت الراهن، يمارس التجني عليها، لأنه كمن ينتقد شخصاً شُلّت يده، ويطلب منه أن يحركها!..

إن السلطة القضائية بموجب النصوص القانونية هي اليوم مكبّلة من خلال نصوص قانونية وضعتها السلطة التشريعية، ومن خلال نصوص قانونية أولت السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة إن على مستوى تشكيل المحاكم أو على مستوى دور السلطة القضائية أو على مستوى الاستقلال المالي للسلطة القضائية..

وقد تلا اللقاء حوار بين القاضي الأيوبي والحضور..

السابق
مياومو كهرباء لبنان في اقليم الخروب صعدوا تحركهم
التالي
توقيف شابين بجرم سرقة صناديق النذورات في عدد من كنائس قضاء جبيل