هل يُنقذ بري وجنبلاط تراث بيروت؟

ليست المرة الاولى ولن تكون الاخيرة، التي يصدر فيها مجلس شورى الدولة قرارا بابطال قرار وزارة الثقافة رفض هدم احد البيوت المصنفة تراثية “حرصا على حق المالك المستدعي في ملكه”، ووصل عدد قراراته المبطلة شكلا، وقبل البحث في ما اذا كانت ذات طابع تراثي ام لا، الى 15 قراراً.

صحيح ان هذه القرارات تستند الى مسوغ قانوني بحت، لكن استمرارها على هذا المنوال سيؤدي الى هدم تراث بيروت بالكامل، خصوصا انها بلغت هذا العدد خلال سنتين، ما يعني عمليا اعطاء الاذن رسميا بهدم 15 مبنى تراثيا في بيروت فقط. وهنا يجوز التساؤل عن الانفصام بين الواجب القانوني البحت لمجلس الشورى، وبين دوره في تحقيق مصلحة عامة تتعلق بتاريخ البلد وهويته وذاكرة شعبه.

مشروع وحلان
السؤال الحقيقي الذي يطرح: هل تريد الدولة فعلا الحفاظ على تراث بيروت وذاكرتها؟ اذا كان الجواب ايجابيا، فالحل الاكيد للخروج من هذه “الكارثة التراثية” يكمن في اقرار” مشروع قانون حماية المباني التراثية” النائم في ادراج مجلس النواب منذ سنوات، بعد احالته من مجلس الوزراء منذ 28/7/2007، بعدما اشبع درسا في اللجان النيابية المعنية، وأدرج بندا في جدول اعمال جلسة اللجان المشتركة في 1/7/2010، لكنه لم يناقش وعاد لينام نومة اهل الكهف في جوارير البرلمان. وعوض اقراره بما يشكل الضمانة الفعلية الاكيدة لانقاذ البقية الباقية من الابنية التراثية المجمد هدمها في محيط وسط بيروت، ادخله السياسيون واصحاب السلطة والقرار في الدولة، معمعة خلافاتهم السياسية، بعدما ادرجه الرئيس نبيه بري في اطار رزمة “مشاريع القوانين المعلقة” التي اصدرتها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ويرفض بري الاعتراف بها بحجة انها صادرة عن حكومة غير شرعية.
ويضع هذا المشروع آلية لحماية الابنية التراثية، ويلحظ اعفاءات وتعويضات مادية تشجع المالكين على المحافظة على عقاراتهم وترميم مبانيهم في اطار معايير محددة، ويحدد غرامات وعقوبات على من يخالف الاحكام المنصوص عليها، وينشئ “صندوق التقدمات”، ويضع قائمة “التحديد الموقت للعقارات التراثية المحمية” وقائمة “العقارات التراثية المحمية”.
وبحكم الواقع السياسي السيئ الذي يبدو ان لا افق له، وبالتالي لا حل يلوح في الافق لرزمة القوانين المعلقة، وفي ظل غياب اي رؤية رسمية لحماية التراث وانقاذ ذاكرة بيروت من الاندثار، يطرح قانونيون وخبراء آثار احد حلين لا ثالث لهما:
1 – إما ادخال البيوت التراثية المميزة والتي تمثل حقبة معينة من تاريخ العمارة في “لائحة الجرد العام”.
2 – وإما تسجيل هذه الابنية في “لائحة الجرد العام” بموجب مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء، ما يرتب على الدولة دفع تعويض عادل لصاحب البيت او العقار.
وفي الموازاة يضع المجلس الاعلى للتنظيم المدني بموجب صلاحياته، المناطق والاحياء التي لا تزال تحافظ على الطابع التراثي فيها قيد الدرس لمدة سنتين (ويكون قد صدر في هذه الاثناء ربما قانون التراث)، وتشكل لجنة من خبراء مستقلين، يضعون معايير للتصنيف، وتوجد معايير عالمية يمكن اعتمادها، لاعادة تصنيف هذه العقارات، وعندها حتى لو صدر عن مجلس شورى الدولة قرار بتوقيف التجميد، يمكن اصدار قرار بادخال المبنى في “لائحة الجرد”، لأن مجلس شورى الدولة لم يطعن بتراثية المبنى، بل بكيفية تجميد هدمه وبطريقة التجميد التي يجب ان تحصل بطريقة قانونية، ويتم ادراجه اما بواسطة قرار وزاري وإما بواسطة مرسوم في مجلس الوزراء، وبذلك يزول العبء عن كاهل وزير الثقافة، ويصبح على كاهل مجلس الوزراء مجتمعا من جهة، وعلى التنظيم المدني من جهة أخرى.
وتلفت المصادر ذاتها الى ان البيوت التراثية بقيت صامدة مدى سنوات بفضل “لائحة الابنية المجمد هدمها في مدينة بيروت” الصادرة بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 32/99 والمعمول به لغاية تاريخه. لكن مجلس الوزراء كهيئة تنفيذية لديه سلطة الى حد معين، وقد اسقط مجلس الشورى قرار مجلس الوزراء لأنه لم يرتكز الى نص قانوني واضح. بينما التسجيل في “لائحة الجرد العام” سيكون مرتكزا الى نص قانوني هو قانون الآثار رقم 166 ل. ر.، والذي يذكر في حيثياته انه يمكن دائرة الآثار ان تسجل اي مبنى تجد فيه صالحا عاما من ناحية التراث او العمارة او الهندسة، وهذا امر لا يمكن الرجوع عنه، وللمالك الحق بتعويض عادل.

العمل المطلوب
لا يقتصر الامر في هذه المسألة على التراث والثقافة، بل يتعداهما الى المس بصفقات تساوي ملايين الدولارات، وبمصالح من ينعتهم النائب وليد جنبلاط بـ”حيتان المال”. وهنا بالضبط الدور المطلوب من جنبلاط، فالمقالات الصحافية والبيانات الاعلامية التي يطلقها لا تفيد، وإلقاء اللوم على وزارة الثقافة وتحميلها المسؤولية وحدها في غير مكانه، خصوصا انها قاومت مدى سنوات، متخطية احيانا كثيرة “صلاحياتها وحدودها القانونية” في سبيل منع هدم بيوت تراثية في مناطق عدة. وهو، من خلال كتلته النيابية والوزارية، ومن ضمنها من شغلوا وزارتي الثقافة والاشغال العامة ويعرفون الموضوع جيدا، يجدر به رفع الصوت داخل المجلس النيابي لاقرار قانون التراث، اضافة الى علاقته الممتازة بالرئيس نبيه بري التي يجب استخدامها لاستثناء قانون التراث من “الرزمة المعلقة” واخراجه من عنق زجاجة السياسة النتنة، وحضه على ادراجه بندا في جدول اعمال اول جلسة تشريعية لاقراره، ويكون بالفعل تحمل مسؤوليته كنائب يدافع عن تراث بلده وتاريخه وذاكرة شعبه. وإلا عبثا كل تحرك وكل كلام، وستسقط البيوت سريعا، وتتهاوى واحدا واحدا شرعيا وقانونيا، ولن يبقى من تراث بيروت حجر يشهد، وعلى الماضي والمستقبل معا السلام.

(النهار)

السابق
احموا أطفالكم من فيروس «الـروتا»
التالي
سلاح «حزب الله» بعد الاتفاق النووي: هل تتبدّل «الوظيفة»الإقليميّة مع «التطبيع»؟