رين متري: كيف نتحدث عن تهجير طائفي من دون الوقوع في لغة طائفية

عشية الذكرى الأربعين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 نيسان 1975 ـ 13 نيسان 2015)، يأتي «لي قبور في هذه الأرض» للمخرجة اللبنانية رين متري كلحظة تأمّل في أحوال 40 عاماً من خراب متنوّع الوجوه والأشكال والأنماط. فيلم وثائقي يتوغّل في أعماق الذاكرة المفتوحة على راهن يؤكّد استمرارية حرب، ويُثبت ـ مرة جديدة ـ أن بشاعة الآنيّ مستمدّة من قذارة الجريمة الماضية، وعدم الاعتراف بمسؤولية ارتكابها.
عناوين
الطائفية، والخطف على الهوية، وعمليات التهجير التي تبدو كأنها منظّمة لأغراض سياسية ـ إيديولوجية ـ طائفية، الديموغرافيا اللبنانية وتحوّلاتها.. عناوين أساسية تحاول رين متري رسم ملامحها في فيلم صادم على مستوى قراءته المسار التدميري لبلد ومجتمع وناس: «بدأتْ الفكرة عندما كنتُ أحاول بيع «قطعة أرض» لي بضيعتي «عين المير» (قضاء جزين)، لاضطراري لبيعها. كان ذلك في العام 2008. بداية العام التالي، بيعت تلك الـ «قطعة». أثناء ذلك، التقيتُ أناساً عديدين يرغبون في شرائها، خصوصاً من الطائفة السُنّية في صيدا. حينها، بدأتُ أسمع كلاماً غريباً عليّ بعض الشيء، من أهل وأقارب ومعارف، محوره الخوف من بيع أرض تخصّ منتم إلى طائفة معينة، من شخص منتم إلى طائفة أخرى».
تقول رين متري إن الطائفية حاضرةٌ في العيش اليومي للّبنانيين، لكنها لم تكــن منتــبهة إلى هذا الحدّ إلى وجودها في صلب إحدى القــضايا «العادية»، كبيع الأراضي : «لم تكن الفكــرة جاهــزة كفيلم. يومها، كنتُ أشتغل على تنفيذ فيــلم لي بعنوان «هــشّ». مع هذا، بدأتُ أكتب. لم يكن الموضوع شخصياً. أردتُ طرح المشكلة على مستوى السياسة والإنماء والديموغرافيا. طرحته بطريقة صحافية إلى حدّ ما: خارطة الخوف عبر الديموغرافيا وتحوّلاتها. أي أن أحكي عن المخاوف الموجودة اليوم. لم يتحوّل الموضوع إلى «فيلم شخصيّ» إلاّ في العام 2010، عندما قررت الوالدة بيع المنزل. كانت صدمة لي. خضّة كبيرة. صحيح أني أردتُ بيع «قطعة أرض». لكن المنزل؟ صحيح أني لم أكن أزوره أو أُقيم فيه. لكن، أن يُباع؟ كانت خضّة كبيرة لي أن يُصبح المنزل «غير موجود».
لماذا شعرتُ بهذا؟ لا أعرف. إحساسٌ ما بفقدان المكان والذاكرة؟ ربما. عندها، صرتُ جزءاً من الفيلم. تذكّرت حينها فكرة قديمة لي أردتُ تحقيقها فيلماً ولم أستطع: فيلم عن «عين المير» عندما كانت خط تماس وجبهة قتال أثناء الحرب الأهلية. فيلم عن مقاتلين كانوا هناك حينها. أردتُ معرفة كيف كانت الأمور، وما الذي حصل، وكيف حصل؟ المهم، أني ـ بعد بيع المنزل ـ شعرتُ بأني مقبلة على فقدان ما للذاكرة. لهذا، صوّرت نفسي وأنا ألصق صوراً فوتوغرافية على جدران المنزل. هذا مكان عليّ إما أن أستعيده، وإما أن أتصالح معه، وإما أن أتمسّك به. أردتُ تصويره. كنتُ أبحث عن مواساة. لكن، هل فعلاً السينما أداة مواساة؟».
يتجوّل الفيلم في قرى ومدن تمتدّ جغرافياً حول «عين المير». يريد الفيلم تحويل الذاكرة إلى صُور تؤرشف وتقول وتبوح. البحث عن أفراد مستعدين للتحدّث أمام الكاميرا صعبٌ. الحصول على إنتاج أيضاً. لقاء بعض الناس المعنيين مباشرة بالتهجير والصراعات القائمة حينها لم يكن سهلاً. بعضهم يتحدّث، لكنه يرفض الوقوف أمام الكاميرا. لا يريدون استعادة ما حصل. كان الأمر قاسياً على رين متري. عند حصولها على بعض التمويل، قرّرت أن تُصوّر كل من يوافق على الكلام مباشرة، قبل أن يتراجع. مقابلات قصيرة ومكثّفة. إطلالات حادّة على وجع لا يزال حاضراً في ذوات كثيرين. الصدام بين «أبناء» الطائفة الواحدة لا يرحم. لا يتردّد بعضهم عن قول الأمور كما هي. عن لفظ الأسماء كما هي. هذا كلّه من أجل أن ترسم رين متري «خارطة الخوف» بعد سنين طويلة على وقوع الـ «جريمة».
تحدّيات
العمل الميدانيّ صعبٌ. تراكم أرشيف، وكتب تاريخ، وقصص مجازر، أمورٌ جعلت المخرجة تعيش في بيتها كمن يُقيم مع موتى. بات لديها هوس بالمعرفة: معرفة المقاتلين والأماكن الشاهدة على الشقاء والحكايات العاكسة أجزاء من التاريخين الفردي والجماعي: «لم يكن يعنيني لبنان، ولا الارتباط بهذا المكان. لاحقاً، صار هناك هوس بمعرفة كل شيء. عشتُ فترة طويلة بين الصوُر. أعددتُ تجهيزاً يروي الجريمة، بعد استحالة حصولي على شهادات أناس معنيين بالأمر. رفض كثيرون كل كلام عن تلك المرحلة. كدتُ أيأس من تنفيذ المشروع. ثم حصلتُ على تمويل. تابعتُ العمل.
كنتُ أريد شخصاً واحداً من كل منطقة. لكن، بدا لي الأمر صعباً. شخصٌ واحد لا يكفي، لأن لكل شخص في كل منطقة أموراً وأخباراً أحتاج إليها، يُمكنها أن توصلني إلى مخاوف الحاضر. التقيتُ من وافق. صوّرته. كانوا مرتاحين معي. ربما لأني كنت واثقة بهم بإخباري إياهم كلّ شيء عني. أردتُ تناول مسائل عديدة، منها: لماذا تمّ تهجير أبناء الدامور تحديداً؟ ما هي خلفية التهجير؟ ما الذي حصل في الجبل؟ مسألة طائفية أو فعل استراتيجي؟ أشعر أنها لم تكن معارك طائفية بل استراتيجية اتّخذت شكلاً طائفياً.
أثناء بحثي، استمعتُ إلى «خوف» الناس. ربما لهذا، كان عليّ أن أنتبه إلى أمور عديدة منذ البداية. مثلاً: كيف نتحدّث عن تهجير له طابع طائفي من دون الوقوع في لغة طائفية؟ كيف يُمكن إدخال «الذاتيّ ـ الشخصيّ» في سياق فيلميّ من دون الاعتماد على تلك النظرية الرائجة في صناعة الأفلام الوثائقية، والمتمثّلة بالذهاب من الذاتيّ إلى العام؟ أردتُ أن أروي الذاتيّ بعد الإمعان في التنقيب فيه والتوغّل في أعماقه. أن أواجه الذات قبل الآخر. هناك أمرٌ أخير: المكان ـ المنطقة ليس ديكوراً. أن أصوّر عيش المنطقة لا عيشي فيها. أثناء توليف الفيلم مع ميشيل تيّان، بدا لنا نحن الاثنتين أن الأهمّ كامنٌ في أن تروي صُوَر الأرشيف والحاضر معاً القصّة التي أريد سردها. هذا مهمّ لي. هل توصّلت إليه؟ ربما. لكن «خارطة الخوف» مخيفة فعلاً في هذا البلد».

(السفير)

السابق
فوز «برشلونة» و«ريال مدريد»
التالي
من لن يموت جراء الحرب الأهلية في اليمن سيموت عطشاً