الدولة في الكابوسين الشيعي والسّنّي

بعد أن اختزلت الثورة الإيرانية التعددية في وحدانية “ولاية الفقيه”، عجزت إيران في تمثيل رغبة شعوب المنطقة بقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. إيران المتمثلة بإطار يدعي الوصل بالإسلام ويختار لنفسه أزياء من المتحف التاريخي يمثل نموذجاً للسيطرة والهيمنة الطائفية والتحالفات مع قوى عالمية،ليست بالضرورة حسنة النية، نحو شعوب المنطقة حتى في أبسط حقوقها الأساسية من حق الحياة والعيش الكريم بأدنى مستوياته.

الفقيه الشيعي حقق حلمه في الولاية فأنتج كابوساً. والفقيه السّني في حالة هذيان وهلوسة لإنتاج ولاية مماثلة ولكن بطريقة يظن أنها ستكون “مختلفة” عما نراه في ولاية الفقيه الشيعية. المشكلة الحقيقية أنهما وجهان لعملة واحدة انتهت صلاحيتها.

الولاية “الدينية” التي حققت نفسها بعد اختطاف الثورة الإيرانية التي شاركت فيها كل فئات المجتمع الإيراني فرصة عظيمة لشعوب المنطقة للنظر في المرآة. لأنه يعطينا نموذجاً واضحاً في الواقع المادي لنتائج التفكير الديني الضيق بأطره الحالية. وهي فرصة تاريخية لتجنب الوقوع في نفس الحفرة. فالإنسان لا يمكن وضعه بسهولة في مخبر لمعرفة نتائج أفكاره، ولكن التاريخ والعواقب التي نراها في الواقع هي المخبر الأكبر حجماً لمراقبة نتائج التفاعلات بين الأفكار والواقع حتى نقرر وجهة مسيرتنا. وليس مصادفة أن القرآن يركز في خطابه على السير في الأرض والنظر في عاقبة الذين قبلنا – أي التاريخ كمخبر حقيقي لسلوكيات البشر— لتمحيص السنن التي تحكم حركة التاريخ، والذي يزيد من تمكننا الفكري لتقرير مصيرنا بوعي أفضل وبأفق أوسع من أهوائنا والبرمجة الثقافية المكتوبة علينا. ولهذا من يرفض النظر لهذا المخبر سيكون عرضة لتكرار المصائب التي مرت بالمخبر التاريخي.

من العواقب الواضحة حالياً أن الخطاب الديني الحالي في منطقة الشرق الأوسط – وللأسف في تاريخ العالم- عاد إلى أحضان المنظومة الطاغوتية. أي أن الخطاب الديني كما نجد في توجهه الواضح ضد هذه المنظومة في النصوص الدينية وبدايات اليقظات الدينية عبر التاريخ، ينبض بتطلعات مخالفة ومعاكسة للمنظومات الثقافية والسياسية الاستبدادية التي بزغت من سياقها. النموذج النبوي الذي ظهر من أتون الجحم الاستبدادي – وخاصة في سياقه في منطقة البحر المتوسط – يمكن أن نقول إنه يتمحور في رمزية قصة يقظة موسى لمنظومة خارج منظومة بلاط فرعون الذي نشأ وترعرع  فيه. منظومة توجه مرجعيتها إلى القوة التي تحكم الطبيعة والتاريخ خارج إرادة الإنسان ورغبته في السيطرة ووهم التفوق والتحكم المطلق. ولهذا فإن فرعون يسائل شخصية موسى في مراجعة تاريخية للتوجه الجديد الذي يطرحه في بلاط فرعون، والذي يقف معاكساً للزخم التاريخي الاستبدادي، فيسأله: “فما بال القرون الأولى؟” أي، من أين أنت قادم أيها الشاب لتقف في وجه القرون المكررة؟

ورغم تصاعد هذه المنظومة النبوية التي تقف في رؤيتها للكون والإنسان وحركة التاريخ معاكسة لمنظومة الاستبداد، إلا أننا نجد أن الأديان قد أعاد البلاط الاستبدادي تدجينها في نفس المنظومة الأخلاقية من قيم الهيمنة العسكرية والذكورية والطبقية والطائفية، محافظاً على بعض من القشور الطقوسية والمراسيمية. ولكن التكوين الجيني للمخلوق الديني عبر التاريخ تم إعادة تلقيحه بالكود الجيني القديم. ولهذا فإن المنظومة الدينية قد تحولت لإطار لتشريع مفاهيم الهيمنة والتسلط، بل وحتى اختطاف الإرادة الالهية. فالخطاب الديني ليس في حالة توجه علمي نحو معرفة سنن التاريخ والطبيعية للتناسق مع هذه الإرادة، وإنما هو خطاب استعلائي قبلي يضع “الآباء” كمعيار لمعرفة الحق، ويضع المصالح الدنيوية القبلية فوق تحقيق إرادة الذات الالهية المطلقة في حكمها للكون المادي والنفسي. ولهذا سنجد أن الخطاب الديني يتوجه بالأوامر نحو الذات الإلهية وبنوع من العنجهية والتبحح. افعل لنا هذا وانصرنا وادعمنا وقف معنا ضد أولئك وفوق أولئك. إنه الطغيان الإنساني حتى في علاقته مع البعد الغيبي المطلق.

ونجد هذا الاستعلاء القبلي متجلياً في كلّ من التوجهات الشيعية والسنية في المنطقة. فخطاب الطرفين هو خطاب استعلائي متعلق بنماذج تاريخية فات وقتها، من الصراعات القبلية بين بني هاشم وبني أمية على السلطة قبل أكثر من ألف عام، ومتصل بفرض إرادة “الأنا” (أنا ربكم الأعلى) على “الآخر” المنبوذ والذي قد تم إخراجه إلى تضارس الكفر والضلال.

ولذلك من المحزن حقاً أنه بعد رؤية نموذج “ولاية الفقيه” أن تكون “الخلافة الإسلامية” في الميول السنية مادة لدغدغة هلوسات لإعادة عجلة التاريخ إلى الوراء والذي في آلياته يتخلص بشكل واضح وتدريجي من كل القوى التي تحاول إرجاع الرحلة إلى الوراء. من المحزن أن الإسلام حالياً بشقيه السني والشيعي قد أخرج من الدافع الأخلاقي التطوري الذي يضعه القرآن كناقل يساعد الإنسان في الاتساق مع إرادة الله التي في توسع وزيادة في الخلق. فالأنبياء يعرضهم القرآن بأنهم مبشرون ومنذرون. مبشرون بإمكانات ونماذج جديدة كبديل للنموذج الاستبدادي، ومنذرون من عواقب وحتمية دمار النموذج الاستبدادي.

ولكن الصراع القبلي الهاشمي الأموي مع العودة لأحضان البلاط الفرعوني، والذي يحكم زخم “القرون الأولى” حسب الرؤية الفرعونية، ما يزال المخدر الأساسي والذي يغري الإنسان بالانتصار على حركة التاريخ، وبأن قبيلته أو طائفته أو دينه سيحكم مطلقاً “فوق الجميع”، حسب الرؤية الهتلرية. هذه العودة للطاغوت أخرجنا عن الخطاب القرآني ونموذج الدولة التكافلية التي أسسها محمد (ص). وصار الصراع الديني متمركزا حول ما حصل بعد نزول القرآن وموت النبي.

ومن غرائب الوضع الإنساني أن أكثر ما يحاربه الإنسان يكون مرآة لخياراته واهتماماته. “ولاية الفقيه” هي مرآة لكل سني يريد إقامة الخلافة الإسلامية. فلننظر جيدا في هذه المرآة!

السابق
إنها معركة الإقليم
التالي
«عاصفة الحزم» والإتفاق مع إيران يفرضان انتظاراً أطول للرئيس