الجهاديون وقد فاجأوا محيطهم بتطرفهم

ياسين لابيدي كان حسب إبن عمه وليد «شابا لطيفاً دمثاً دافئاً. وأفراد عائلته هم الآن تحت وقع الصدمة». أما سهيل صديق شقيقه، فيروي: «منذ بضعة أيام فقط، كان جالساً هنا بالقرب منا، في المقهى، يحاول تنظيف دراجته الصغيرة». وياسين يسكن في العمران الأعلى، وهو حيّ سكني يقع في شمال غرب العاصمة التونسية؛ وهو ترعرع في عائلة من الطبقة الوسطى، وكان أبوه يعمل في حقل البناء. وقد تابع ياسين دراسته العليا في الجامعة لمدة عامين، قبل أن يتركها ويمارس أنواعا شتى من الأعمال الصغيرة. بعد الثورة عام 2011، أخذ ياسين يصلّي في المواقيت الخمسة. ولكنه، يضيف سهيل «كان يضحك معنا ويمزح كثيرا بشأن البنات. صحيح انه لم يكن يتناول الخمرة، ولكنه لم يكن يأخذ على شاربيها من أصحابه». ومنذ بضعة أشهر، غاب عن عائلته لمدة شهر، قال انه سيجول أثناءه في أنحاء تونس مع صديقته الاميركية ذات الأصل العراقي.

كانت هذه ردة الفعل الأولى على اكتشاف المقربين من ياسين لابيدي أنه واحد من منفذي عملية متحف باردو الإرهابية في قلب العاصمة التونسية، والتي أودت بحياة إثنين وعشرين سائحاً ومواطناً تونسياً. وردّة الفعل هذه، المتفاجئة دائماً، غير المصدقة أبداً، بأن ذاك الشاب الهادىء، مأمون الجانب، يمكن ان يرتكب جريمة كهذه، أو أن يلتحق بالمركز الجهادي العالمي، «الدولة الإسلامية» بقيادة «داعش»، ليوسع الأعمال الإرهابية ويتقنها ويصبح واحد من نجومها.

شهادة أقرباء ياسين لابيدي، لا تختلف بشيء عن شهادات أخرى، صدرت بعد كل عملية إرهابية، بعد كل عملية التحاق بـ»الدولة الإسلامية»، وكان بطلها شاب يقطن إحدى مدن أو عواصم الغرب، وكان خلوقا دمثا، هادئا، واذا به قاتل مجرم متطرف إرهابي. كان بالوسع القول ان الجهاديين الغربيين، مثلا، العائشين في مجتمعات «فردية»، لا شأن لا للجيران ولا للعائلة بتفاصيل دواخلهم، حيث يسهل إخفاء النوايا والطبائع. ولكن أن تصدر تلك الشهادات عن محيط شرقي، معروف عنه قلة «فردية» أفرادهم وقدر اندماجهم بمحيطهم وجيرانهم وعائلاتهم، أن يكون هناك إجماع على المفاجأة…

بالأمس، كان يمكن لك أن تقول، من دون كثير تدقيق، بأن فلان ينتمي الى هذا الحزب، أو ينضوي تحت ذاك التيار… كان إذا ذهب الواحد منهم في السبعينات إلى موسكو أو عمان، تعرف انه هناك للتدريب أو المشاركة في «الدورات»؛ وكانت كلها أحزاب سرية، ممنوعة، وعاملة على تغيير النظام السياسي، وجذرياً. وكان اذا استشهد أحدهم بعملية ضد العدو، يستقبله محيطه وكأن الأمر بديهي، من طبيعة أشياء الحياة. أما الآن، فلم تعد تعرف من هو الإرهابي القادم. وليس في هندامه، ولا عاداته الجديدة، سوى قليل من الصلاة، وتجنب الخمر والبنات؛ وهذه ليست بالضرورة صفات الإرهابي العتيد.

فما الذي حصل إذن؟ ما الذي جعل شبابا يافعا قادر على كل هذا التخفي؟ على كل هذه التقية؟ قادراً وراغباً؟ ما الذي يفتح له الطريق أمام لعب دور الحمل في الخارج، وفي دواخله إعداد وتخطيط لشرور قاتلة، تطيح بحياة بشر، وتخرب عمرانهم؟

النظرية الخلفية أولا، التي تقوم عليها الجهادية الإسلامية؛ النظرية «القطبية»، نسبة إلى سيد قطب، مُنظِّر «الاخوان المسلمين»، والتي لخصها في كتابه «معالم في الطريق»(1965)؛ في ستينات القرة الماضي، أيام حكم عبد الناصر. والمعروف ان عبد الناصر أخذ قراراً بإعدام سيد قطب إثر قراءته لهذا الكتاب ، بعدما استشعر خطر هذه النظرية على الكيان المصري نفسه. أما النظرية نفسها فتقول ان المجتمع الذي نعيش فيه، هو «مجتمع جاهلي»، وان على المسلمين المؤمنين، أي «الإخوان»، أن «يهاجروا» من هذا المجتمع ويكوّنوا مجتمعهم الخاص حيث لا تكون الحاكمية إلا لله. وانهم بهجرتهم الداخلية هذه، ينفصلون عن المجتمع الكافر الذي لا يحكم بشريعة الله. من هنا تفرّع كل من «التكفير» و»الهجرة»: تكفير المجتمع الجاهلي والهجرة منه في عوالم الإخوان السرية الصافية. هذه الخلفية النظرية، قد لا يتقنها أتباعها بما يلزم لتقوية قناعاتهم؛ ففي اللهاث نحو «الجهاد»، وقتل الناس وتفجير الكيانات، لا يكون للفكر أو التفكير شأن كبير. ولكن مسالكهم كلها، وشعاراتهم، وعملياتهم وطبائعهم، وانشاءهم دولة جديدة على الأنقاض، تحكم بالشريعة، وتقتل كل من لا يداريها… كلها تشير إلى أن الجهاديين هم أحفاد سيد قطب الأقحاح، من حيث إنعزالية توجههم، وطاقتهم المتوالية على التكفير.

هذا عن قديم الجهادية الإسلامية، عن تراثها الفكري العميق، عن «الإطار النظري»، إذا شئت، لإنعزالية مرشحيها عن مجتمعهم وأهلهم وأصحابهم؛ بل هي واحد من الأسس التي تنبني عليها شخصيتهم الجهادية. ولكن الموضوع لا يقف عند هذا الحدّ؛ فقد مدّت التكنولوجيا الحديثة هذه الإنعزالية بكل أسباب القوة، عبر الشبكة الإلكترونية وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، المندمجة فيها. فالشخص الذي يقع عليه الوحي الجهادي، يمكنه ان «يتثقف»، أن يُغسل دماغه، أن ينتسب، أن يقتنع، أن ينجذب، أن يتجنّد، أن يتدرّب، أن يتلقى التعليمات… أن يقوم بكل ما يلزم ليتحول إلى جهادي صالح…. كل ذلك عبر الشبكة، في غرفة ما، لوحده، من دون أن يراه أحد أو يسمعه، أو حتى يشعر بتحولاته التدريجية، طالما أن الأمر كله في تلك الغرفة الصامتة.

كان الذي يريد أن ينخرط بحزب ما، ولو كان سرياً، كان عليه أن يخرج من بيته، أن يجتمع بغيره، ولو سريا، أن يوزع المناشير، أن يشارك في التظاهرات، أن يتكلم مع الآخرين، أن يعارضهم أو ينتقدهم أو يحمسّهم، و يشاركهم الرأي… بل كان مطلوبا منه أن يكون، في أفضل حالاته، «مناضلا عضوياً»، أي شديد الاندماج بهموم وحياة اهله ومجتمعه وعمله الخ. أما اليوم، فصاحب الطاقة على التغيير، وهو حتى إشعار آخر جهادي إسلامي، محصن بنظريته الانعزالية: ليس له من صديق أفضل من تلك الآلة التي تربطه بعوالم أوسع من تلك التي يعيش فيها، ومن دون أن يتحرك عن كرسيه ولا أن يتفوه بكلمة واحدة. فالشبكة أبعدته عن الحياة، وحولت افتراضه إلى واقع، وابتعد الواقع الواقعي عن حقيقته كلما غاص هو في عالمه الإفتراضي المسيّج بصمته وكتمانه. فتكون المفاجأة المزلزلة بأن ذاك الشاب اللطيف، الدمث… الخ.

الشبكة الإلكترونية العائدة الى عالم المستقبل تعين نظرية العزلة الآتية من الماضي. كلاهما يخدمان خطرا يهدد حياة الناس وحضارتهم وانسانيتهم. ولكن الشبكة ليست هي المسؤولة؛ فلنتذكر، ليس بعيدا، منذ أربع سنوات، كانت الشبكة نفسها هي الرافعة التي سمحت لشباب الثورة في تونس ومصر وسوريا باطلاق ثورتهم؛ وقد تغنَّينا وقتها بفايسبوك وتويتر بصفتهما أدوات ثورية بامتياز تفوقتا على المنشور والحزب الثوري في قدرتهما على التعبئة والتنظيم واطلاق ثورة شبابية بادوات غير مسبوقة.

إن هذه القدرة التي تملكها الجهادية الإرهابية على التخفّي والتقية، حمايةً لسرية عملياتها القاتلة، تفرض على الساهرين على الأمن أن يراقبوا الشبكة نفسها؛ وهو على كل حال ما حققةّ مثلا الفايسبوك بجمعه معلومات ثمينة عن «زبائنها»، وما شجّع مؤسسها، مارك زوكربرغ، على التخطيط للتشبيك مع شركات غذائية وإعلانية عملاقة، فضلاً عن بورصات ومصارف. بالمزيد من الرقابة والطرق الاكترونية المبتكرة، سوف تكبر العين الشبكية المراقِبة، وتُصاغ من أجلها القوانين، لتضبط تفلتها وحريتها المطلوبة للقيام بعملها على أفضل وجه؛ وكل ذلك بفضل ما اخترعته الجهادية من وسائل التخفّي على جريمتها المنظمة. رقابة الشبكة فوق رقابات البوليس والأمن والمجتمع والاهل… ليتحول الفرد، في زمن الفردية المزعوم، إلى مادة، ارشيفية مع الوقت، لا يملك من الحرية غير ثقب هوائه المغبّر، طارداً لكل معنى، طارداً للسراب حتى.

(المستقبل)

السابق
الطوائف المسيحية في صور احتفلت بالفصح
التالي
المسيح مجّده على الشاشة المثليون وأنصار الالحاد