يوميات معتقل 12: عن معتقلين كانوا أسوأ من الاحتلال

سجن
قبل أن يوزعنا جنود الإحتلال على معسكرات أخرى بسبب اكتشافهم النفق الذي كنّا ننوي الهروب منه إلى الحرية، تسلّط علينا ذاك الرجل أسمر اللون طويل القامة، الذي يخشاه جميع الأسرى، ولم يتركنا بحالنا إلاّ بعد أن حصل على ثماني علب من السجائر.

الإسم: مجهول «منسي بعد ثلاثين عاماً»
الشكل: بغل قبرصي
الجنس: مصري أسمر
الرتبة: ضابط في فرقة 17 المشهورة ببطشها وحسن تدريبها
المكان: معسكر رقم 20 في معتقل أنصار

إنّها الحادثة الأسوأ في تاريخ كلّ معسكرات الإعتقال، من أوشفيتز إلى أنصار، فبعدما احترقت الخيم في المعتقل في صيف 1983 تحوّل المعسكر إلى مجرّد قطعة أرض مربّعة لا تحتوي على شيء.

رفض الجنود تزويدنا بخيم جديدة، ومن هنا بدأ كلّ منّا بجمع ما تيسّر من أغطية عتيقة تركها المعتقلون المفرج عنهم، وبعضا من قطع أقمشة الخيم التي نجت جزئياً من الحريق، وذلك بهدف إنشاء خيم صغيرة للنوم. إخترت وابن عمي علي وصديق آخر مكاناً قرب الشريط الشائك وبدأنا التهيئة لإنشاء خيمتنا الصغيرة.
كان معسكر رقم 20 حينها يضم لبنانيين فقط، ما عدا قلة قليلة من جنسيات مختلفة، من بين هؤلاء كان هذا الرجل الثلاثيني، الذي يخشاه الجميع، أسمر اللون طويل القامة، يشبه المارد القصص الخرافية.
إقترب ذلك الرجل منّا قائلاً: «أنا اخترت هذا المكان لإقامة خيمتي… عليكم بالرحيل»
فأجبناه: «ما العمل؟»
قال: «إختاروا مكاناً اخر… هذه أرضي!»
إلتزمنا الصمت واخترنا الإبتعاد لحوالي المترين شرقاً وبدأنا العمل.

إلاّ أنّه أصرّ أنّ هذه الأرض له وعلينا أن نذهب من هذه البقعة، بالرغم من أنّه أصبح يملك مساحة واسعة جداً إذا أراد إنشاء خيمة.

لكنّه صرخ بصوت قوي «أنا حرّ…أريد لوحدي خيمة واسعة… من هنا إلى هناك» .

علي إبن عمّي كان يفكر حينها بشيء آخر، أشار لي بأن أتبعه، وقال لي: «سأحاول شراء هذه الأرض منه… هذا ما يريده، وإلاّ لن يترك لنا متراً مربعاً في المعسكر”.

ذهب علي عند ذلك الرجل، وبدأ بعملية تفاوض صعبة، إنتهت بشرائنا لتلك الأمتار المربعة بثمانية علب كاملة من السجائر.
كان علي يخبىء بعضاً من علب السجائر، التي استملناها مرّة من الصليب الأحمر الدولي عبر طرود بريدية أرسلت لنا من عائلاتنا في الخارج ولمرّة واحدة، الكمية لم تكن كافية، لجأنا إلى استدانة الباقي من أحد الأصدقاء غير المدخنين.
ثمانية علب من السجائر مقابل أربعة أمتار مربّعة، كانت كمن يشتري أمتاراً في منطقة سياحية رائعة،أخذها ذلك «الضابط» لكي يتركننا وشأننا.

مكثنا في تلك الخيمة الصغيرة لمدّة شهر تقريباً، قبل أن يقفلوا المعسكر بعد اكتشاف النفق الذي كان على وشك الإنتهاء.
بعد توزيعنا على المعسكرات الأخرى ذهب هذا الرجل إلى معسكر آخر، وأكمل ما بدأه من ابتزاز المعتقلين وتهديدهم بالويل مقابل الحصول على ما يريد!
طيف هذا الرجل وأشباهه كانوا في كل معسكر وفي كل مكان.

السابق
الايرانيون.. بدهم يعيشوا!
التالي
عن «عميد القتل» في الإعلام اللبناني