عينا هدى الخائفة من فوّهة الكاميرا

اللاجئة السوريّة هدى (4 أعوام) تستسلم لعدسة المصوّر التركي عثمان صغيرلي (عن «تويتر»)

في العام 1985، ظهرت على غلاف عدد حزيران من مجلّة «ناشونال جيوغرافيك»، صورة لفتاة أفغانية ذات اثنتي عشرة سنة، وعينين خضراوين ثاقبتين. منذ إصدار ذلك العدد، وإلى اليوم، بقيت الصورة التي التقطها المصور ستيف ماكوري، المعنونة «الفتاة الأفغانية» أشهر صور أغلفة المجلة على الإطلاق. صارت الفتاة شربت كُله، التي كانت في وقت التقاط الصورة تعيش في مخيّم «ناصر باغ» للاجئين الأفغان في باكستان، رمزاً لما يقاسيه الأطفال المعرّضون لتبعات الحروب واللجوء في كل أنحاء العالم. ورغم أن الصورة لم تظهر سوى وجهها وعينيها، لكنّ ذلك كان كافياً لفهم ثقل الزمن وأثر الحرب في نفس الطفلة. يتذكر العالم شربت إلى اليوم، ويبدو أن أحداً غير مستعدّ لنسيان عينيها بسهولة.
خلال الأسبوع الماضي، انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي بعيني طفلة أخرى، حيث انتشرت صورة غير واضحة المصدر، لفتاة سوريّة ترفع يديها بخوف أمام عدسة الكاميرا. تظهر الفتاة ذات قصّة الشعر الدائرية، بعينيها السوداوين الكبيرتين ضامّة شفتيها إلى الداخل ومغلقة كفيها المرفوعين فوق رأسها في إشارة للاستسلام أمام ما تعتقد أنه خطر الموت الآتي من فوهة سلاح.
بدأ الأمر من صفحة المصورة الصحافية الفلسطينية نادية أبو شعبان على «تويتر» التي شاركت الصورة وعلّقت عليها بالقول «مصوّر صحافي التقط صورة لهذه الطفلة السورية ذات الأعوام الأربعة، والتي اعتقدت أن الكاميرا هي سلاح مصّوب باتجاهها فاستسلمت!» تم إعادة تغريد الصورة أكثر من 24 ألف مرّة على موقع «تويتر»، حتى الآن، كما انتشرت الصورة على موقعي «فايسبوك» و «ريديت»، حاملة معها سيلاً من التعليقات المتعاطفة مع الطفلة والمعبّرة عن الذهول من الحال التي آلت إليها الإنسانية.
لكن انتشار الصورة ترافق مع سجال حول صحّتها، خاصة لجهة أنها غير مترافقة مع ذكر المصدر أو اسم المصوّر. كما حصل التباس حول مكان وزمان التقاط الصورة، التي اعتقد أنها صورة لصبي التقطت العام 2012. بعد البحث عن المصدر، أمكن التعرف إلى هويّة مصوّرها وهو المصور الصحافي التركي عثمان صغيرلي، الذي صرّح لموقع «بي بي سي» بأنه التقط الصورة في كانون الأوّل/ ديسمبر من العام 2014 في مخيم عتمة للاجئين السوريين على الحدود التركية. أوضح المصور أن فوهة المسدس التي سمّرت الطفلة عينيها في عينها لم تكن إلا عدسة الـ «تيليفوتو» الكبيرة الحجم، والتي استخدمها لتقريب الصورة. يقول صغيرلي إنّه لم ينتبه إلى تعبير الخوف على وجه الطفلة إلا بعدما التقط الصورة ونظر إليها في كاميرته. «عادة ما يهرب الأولاد، أو يخبّئون ضحكاتهم أو يبتسمون للكاميرا، لكن الطفلة كانت تعض شفتيها وترفع يديها إلى فوق». يضيف صغيرلي لـ «بي بي سي» إن حقيقة ما مرّ به اللاجئون من ظروف يمكن فهمها من تعابير الأطفال أكثر بكثير من تعابير الكبار، فهؤلاء يعكسون حقيقة المشاعر ببراءة صادقة.
هدى، ذات الأعوام الأربعة، نزحت من مدينة حماه مع عائلتها المكونة من أم وثلاثة إخوة، بعدما خسرت العائلة الأب قبل نزوحها إلى مخيم العتمة للاجئين قرب الحدود التركية. صورتها تبعث على التساؤل، أي مشهد كانت تستعيد الطفلة في تلك اللحظة، وأين رأت أشخاصاً يرفعون أيديهم فوق رؤوسهم باستسلام حتى تتعلم مثل هذا الفعل؟ هل تعلم طفلة تبلغ من العمر أربع سنوات معنى فوهة المسدس، وماذا يصنع الرصاص بجسد الإنسان؟ ماذا يمكن لحياة صغيرة من أربع سنوات فقط أن تشهد خلال هذا الوقت القصير كي تصنع رد فعل من هذا النوع؟ أربع سنوات هي وقت كاف كي تتعلم الصغيرة المشي، الكلام، العدّ إلى عشرة، أسماء الألوان، والفرق بين التفاحة والليمونة ربما. لكن أن تعرف معنى أن يخرج الرصاص من فوهة سلاح ليقتل إنساناً، وأن تستعيد مشهداً يستدعي هذا النوع من الخوف في عينيها، فتلك مسألة أخرى. عينا الطفلة التي «رأت الكثير»، أكثر مما يلزم ربما، قد تكونان سر انتشار وشهرة هذه الصورة، كما كانت عينا شربت كُله المتحدّيتين سبباً لانتشار صورتها من قبل.
يمكن استحضار صورة أخرى قاسية للمصور الأميركي ستيف ماكوري عنوانها عيني طفل أيضاً، حيث التقط صورة لصبي من يانيشا في البيرو، يبدو في مثل عمر هدى، يمسك مسدساً ويصوبه إلى رأسه، بعينين كبيرتين دامعتين، تحملان من اليأس والخوف ما لا يمكن أن يجتمع في بدن طفل لم يبلغ السادسة أو السابعة بعد. العينان القويتان تثقبان عدسة ماكوري، وتثقبان القلوب، كعيني هدى وشربت.

(السفير)

السابق
اتفاق لوزان: طهران تحتفل بتحريرها من العقوبات رغم تكبيلها نوويا
التالي
انحياز للشعب لا للحروب الأهلية