الحوثيون «فاعل عاقل»؟

لم يعُد الحديث عن أسباب الحرب «العشرية» التي تقودها الرياض ضد الحوثيين وحلفائهم في اليمن، يؤثّر كثيراً على قراءة المشهد الراهن. العنوان العريض للمسألة إقليميٌ متعدد الجوانب: ثمة رغبة سعودية بمجاراة دينامية إيران والتفوق عليها في منازلات كبرى، بما يخفّض من سقف التوقعات الخاصة بتسوية تلوح في الأفق بين طهران وواشنطن. بينما الرغبة الإيرانية تنطوي على محاولة تثبيت نقاط الحضور في الإقليم أو تطويرها، حتى لا تضطر، بموجب أي تسوية محتملة، إلى تقديم تنازلات على حساب هذا الحضور وإمكانيات توسيعه.
كما أن إيران تعمل على تعميم نموذج اللاعب المحلي القادر على إدارة بنىً تحتية شبه دولتية داخل عدد من كيانات الإقليم، فتُرسمل لهذا الغرض على حالات أو قوىً أنتجتها الظروف الموضوعية لبلادها. والحوثيون في اليمن (وهم حالة موجودة قبل الدعم الإيراني) ليسوا استثناءً على القاعدة.
بينما تهتم السعودية، كما كانت على الدوّام منذ تأسيس المملكة، بإبقاء اليمن تحت جناحها، حتى يستوي الأمر لها في شبه الجزيرة العربية، ذات التداخلات السكانية القادرة على تعديل الحدود في لحظة اختلال موازين، وتناسبِ ظرفٍ دولي ما.
على أن البُعد الإقليمي للمسألة هو امتدادٌ عضوي لشجونٍ تاريخية. فالغارات التي تستهدف اليمن اليوم، تعيد التذكير ببديهية يكاد ينساها كثيرون في حمأة الحرب وصورتها الكبرى: هناك بلد هائل القدرة الاقتصادية يجاوِرُ آخرَ ذا ظروف بالغة السوء، وقد قامت سياسة الأول حيال الثاني منذ عقود، على قاعدة الإبقاء على ضعفه. لا غرابة إذاً في ولوج طرف ثالث ساحة البلد الضعيف، اقتصادياً وأمنياً، وتسويق تصوراتٍ سياسية فيه حول احتمالات مستقبلٍ أفضل.
تختصر هذه المعادلة، بشيءٍ من التبسيط، العلاقة الثلاثية بين طهران والرياض و «الساحة» اليمنية بمكوناتها المختلفة.
وتترجم المعادلة هذه نفسها جزئياً على الأرض بواسطة الحركة الحوثية. والحركة المذكورة، كما أسلفنا، لاعب يملك مقومات شبه دولتية. وهو بمفهوم العلاقات الدولية، «فاعل غير الدولة» non-state actor، قادر، بحكم تنظيمه وقدراته، على التأثير في المسار السياسي داخل الكيان الذي ينشط فيه، كما على مستوى الإقليم.
وقد جرت العادة، تحديداً وفق «المدرسة الواقعية» في العلاقات الدولية، على اعتبار الدولة «فاعل عاقل» rational actor، خصوصاً حين تتطلب عملية اتخاذ القرار فيها مساراً معقّداً. في حين تركز نظريات أخرى في العلاقات الدولية على تأثير غياب المؤسسات وتضخم دور الفرد، على آليات اتخاذ القرار، وبالتالي على مدى «عقلانية» الحسابات والقرارات الناتجة عنها.
على المنوال ذاته، يمكن لـ «الفاعل غير الدولة» أن يكون عقلانياً يقيم أوزاناً للحسابات والتبعات، كما يمكن له أن يكون خلاف ذلك. هكذا، مثلاً، يُفهم أحد جوانب تمييز الدول بين حركات مسلّحة ذات منابت ايديولوجية إسلامية. فـ «حماس» و «حزب الله»، بالنسبة للاتحاد الأوروبي، غير «القاعدة» و «داعش»، والتعامل مع كل من هذه الكيانات يأخذ في الاعتبار مدى «عقلانيتها»، أي، بعبـــارة أخرى، مدى جاهزيتها للتعامل مع الوضع القائم وقوانينه وفق ما تفترضه حسابات المنطق.
وللكلام المذكور هنا صلة باليمن، حيث يخوض الحوثيون حرباً تكاد تجعلُ من هدم البلاد على رؤوسهم عنواناً لها. وهم يدركون، كما يدرك حلفاؤهم، أن الحملة الجوية، وإن طالت، غير قادرة على إنتاج مفاعيل تشطبهم من المعادلة نهائياً، وأن الغاية من وراء الهجوم الراهن تتمثل بتطويعهم وتحجيم قدراتهم، حتى يسهُل هضمهم على طاولة التسويات اللاحقة.
يُدركون كذلك أن الحرب مفتوحة على احتمالات شتى. وهي، وإن كانت ترفع من أسهمهم في أوساط يمنية معينة، إلا أنها تعين خصومهم في الداخل على مواجهتهم. ومن هؤلاء الخصوم «أنصار الشريعة» و «تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية» و «داعش». وكلٌ من هؤلاء «فاعلٌ غير الدولة». إلا أن أداءهم «غير عاقل» بامتياز، وهو أقرب ما يكون إلى انعكاس لديماغوجيات عقائدية صرفة. وهذا، فضلاً عن الفارق الضخم في طروحات هؤلاء وأولئك لناحية التشدد وفرض أنماط الدولة والمعاش على الآخرين، عاملٌ مركزي من عوامل التمييز بين الحالة الحوثية وحالات التطرف المشتقة من تنظيم «القاعدة»، أقله في قاموس العلاقات الدولية.
على أن الالتزام الكامل بشروط «اللاعب العاقل» يستوجب جملة من القيود. فهو يعني، مثلاً، عدم إقفال مضيق باب المندب عبر استهداف سفن مشاركة في الحملة، رابضة قبالته، حتى لا يصبح الفاعل المسؤول عن الضربة هذه، من وجهة نظر اللاعبين الدوليين، طرفاً غير مؤهل للالتزام بالحد الأدنى من «قواعد اللعبة الدولية» وضوابطها، فيصبح بذلك «لاعباً غير عاقل»، وفق المعيار المذكور.
على أن القدرة على الاحتمال من دون رد من جانب الحوثيين قد تنفد قريباً، خصوصاً بعدما بدأت الضربة تستهدف البيئة المدنية الحاضنة للجماعة ومنشآت حيوية في البلاد.
هكذا، يستحيل السؤال كالتالي: بعد أيامٍ على إطلاق الحرب، كيف سيكون الرد، علماً أنه ـ وفق ما تيسّر من معلومات – متاحٌ إلى حد ما لـ «أنصار الله»؟ وهل تتمكن الجماعة من الحفاظ على صورتها كـ «فاعل عاقل»، أم أنها ستندفع إلى ردود تنعكس سلباً على هذه الصورة؟
الثابت أن الحوثيين، ومعهم حلفاؤهم في الإقليم، يحاولون المشي على الحافة من دون الوقوع في المطـــب المــــشار إليه. لكن المرجح أيضاً أن قدرة احتمالهم من غير ردٍ لن تطول.
قــــريباً جداً، سيتبين شكل الرد، وما إذا كـــانوا قادرين على الحفاظ على قدر من التـــوازن، لا يخـــلّ بالمعادلة المذكـــورة.

(السفير)

السابق
إقفال محل للحلويات في البداوي بسبب مواد منتهية الصلاحية
التالي
بعيداً من أول نيسان… الكذب والصحّة «لا يلتقيان»