النفط «الداعشي» ينشر «السرطان» ويلوث الأراضي السورية

من يصدق أن نفط داعش المستخرج من الحسكة يسبب أزمات بيئية وصحية في السويداء السورية؟ المحافظة البعيدة عن آبار النفط ومناطق سيطرة داعش وصلت إليها الأمراض عن طريق ما يعرف بالمازوت الداعشي، بسبب سعره المنخفض، لكن كلفته الصحية والبيئية المرتفعة!. ثلاثون ألف دولار، عرضها مهند عمسكي على طبيب الأمراض الخبيثة، قائلاً له: “إشفني من سرطان الرئة وخذ كل ثروتي” مع العلم أن مهند قبل سنوات قليلة لم يكن يمتلك من ثروات الأرض إلا مزرعة صغيرة للأقطان في ريف الحسكة، بالطبع (ثروته) الحديثة والصغيرة في آن لم تجمع من زراعة القطن، بل بعدما تحولت قطعة الأرض التي يزرعها إلى “حرّاقات” وهي العبارة التي يستخدمها أبناء المنطقة للحديث عن أنماط تكرير النفط البدائية.

تؤمن أنشطة التكرير البدائية نوعاً من الإزدهار الاقتصادي للعديد من سكان المحافظة السورية، بعدما انخرطت العائلات الريفية في مهنة بيع ونقل وتصفية النفط، التي تؤمن لهم مداخيل مالية مرتفعة، ووجد كثير من أبناء ريف الحسكة في المهنة الجديدة، طوقاً للنجاة من الموت جوعاً، لتجلب لهم ويلات أشد فتكاً وأنماط موتٍ أصعب.

الموت بالنفط

يمثل مهند نموذجاً للحياة الجديدة في الريف الجنوبي للحسكة، مئات وربما آلاف الفلاحين الذين فقدوا مصادر الرزق بسبب عدم توافر البذار والأسمدة وطرق النقل، باتوا اليوم يشترون النفط الخام من داعش، مزارعهم الخضراء أصبحت مراكز تكرير بدائية، خطرها الصحي والبيئي مرتفع جداً، ويتعدى الإنسان والحيوان ليطال التربة والمياه السطحية والجوفية. التلوث يبدأ من بداية حلقة استخراج الخامات وليس كما يعتقد الكثيرون خلال عملية التكرير، الخبيرة البيئية عروب المصري تؤكد أن المياه المرافقة تعتبر ملوثة شعاعياً، ويجري التخلص منها أثناء عملية الإنتاج القانوني عبر إعادة حقنها من جديد في آبار النفط، في وقت لا يعلم أحد أين يرميها تنظيم داعش، وسط شكوك في كونها تسببت في تلويث مصادر مياه ري رئيسة وأراضٍ زراعية شاسعة في المحافظة. ولا ينحصر وفق المصري التلوث الناتج عن عمليات تكرير النفط غير المشروع في رقعة صغيرة، بل ينتقل عبر الهواء والماء والتربة والغذاء، ويترك أثره على النباتات الحيوانات، ما يؤثر على الألبان والأجبان واللحوم، وبالتالي المستهلك في المنطقة الشرقية من سوريا مضطر وليس لديه بديل عن استهلاكها.

المحلل الاقتصادي شادي أحمد، يلفت إلى أن النظام البيئي في الحسكة السورية تعرض لاختلال خطير في التوازن الحيوي، مؤكداً ظهور أنواع جديدة من الحشرات التي تنقل العديد من الأمراض، بالإضافة إلى انقراض سلالات فريدة من الزواحف والطيور كانت تعيش في المنطقة، في إطار نظام بيئي متكامل.

سرطانات وأشياء أخرى

مهند عمسكي الذي زار مشفى البيروني المتخصص بأمراض السرطانات في دمشق، ليس حالة فردية، بل على العكس، تؤكد المصري أن غالبية الحالات التي يستقبلها المشفى حالياً تأتي من المنطقة الشرقية، وقد تضاعفت أعدادهم بشكل كبير جداً عن السابق، مع العلم أن نسبة الإصابة بالسرطانات تعد مرتفعة في المنطقة الشرقية في السابق، بسبب اليورانيوم المنضب الذي استخدم في الحرب العراقية، والاستخراج غير الدقيق من بعض الشركات النفطية. تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية أشار إلى انتشار مشاكل صحية خطيرة في منطقة دير الزور، وارتفاع حالات الإصابة بالسرطانات بنسب مخيفة، وتدهور الخدمات الصحية الممكنة، ما يسبب كارثة صحية وبيئية في آن واحد، ولا يمكن إيقاف هذه الظاهرة دون تحسن الوضع الأمني في المنطقة وعودة حقول النفط إلى الاستثمار الطبيعي وتصفيته في المصافي عالية التقنية. ويصعب تقديم دراسات محددة عن الأمراض التي تعرض لها أبناء المناطق التي تعمل في استخراج النفط وتكريره بسبب سيطرة داعش والتنظيمات المسلحة، لكن المحلل الاقتصادي شادي أحمد يتحدث عن طائفة واسعة من الأمراض التي سجلت، من أبرزها تسجيل أربعة عشر ألف حالة من مرض الليشمانيا في الحسكة، وزيادة لافتة في سرطانات الجلد والجهاز التنفسي، بالإضافة إلى حالات تشوه خلقي لدى المواليد الجدد وخاصة مرض شلل الأطفال والتصبغات وارتفاع عدد الإصابات بالربو.

الخراف السوداء

تقرير منظمة الصحة العالمية تحدث عن شهادات لنفوق مئات الخراف في مناطق تكرير النفط، لكن الأسوأ هو تحول الصوف الأبيض لآلاف الخراف إلى اللون الأسود، بسبب تلوث الهواء بالنفط، فالحراقات التي تنتج النفط، تنتشر في منطقة واسعة من الأراضي الريفية، معظمها كان عبارة عن مزارع لإنتاج القطن وتربية الدواجن، من يمر من المنطقة وعلى مسافة عشرات الكيلومترات يرى الأدخنة السوداء ومناطق الحرق الممتدة من شرق مدينة دير الزور إلى البوكمال على الحدود العراقية، وتحولت المنطقة إلى غمامة سوداء تلقي بسوادها على كل ما حولها، وتلوثت التربة ببقايا النفط المقطر التي تلقى حتى في النهر، ما انعكس على المزروعات ورفع المستوى الحرارة، ونسب التصحر، وتغلغلت المواد الملوثة حتى في المياه الجوفية مع نهر الفرات. لكن التلوث بالنفط الداعشي لم يعد محصوراً بشرق سوريا، بل تعداه إلى المناطق التي تستورد المازوت سيء الإنتاج، حيث يباع “الداعشي” بسعر يقل بنسبة 30 في المئة عن النفط المدعوم من الحكومة السورية، لكنه على الرغم من ذلك يعد خطراً، واستخدامه يعرض من يلمسه لأمراض جلدية خطيرة، كما أن دخانه يحتوي على مواد سامة وقاتلة، ولكنه انتشر في السويداء بسبب حاجة السكان إلى التدفئة، وعجز الحكومة عن توفير كميات مناسبة من المازوت.

سنوات من المعالجة

بعد تحرير العديد من المناطق العراقية التي كانت تسيطر عليها داعش، تبين أن المنظمة لم تتلف فقط معدات إنتاج النفط، بل سمحت بتسرب النفط إلى التربة،مصادر ضخمة من المياه أصبحت بلا قيمة، وهي تقع على نطاق يبعد ما يصل إلى 30 كلم من الآبار، بسبب وصول النفط أو المياه المصاحبة إليها، وبالتالي فأكلاف إنتاج النفط من قبل داعش تفوق بأشواط ما يجنيه التنظيم، لكن فعلياً، ما الذي يمكن أن يخسره داعش من هذه العمليات؟ فهو يستخدم منشآت موجودة سابقاً، ويهدف إلى بيع النفط بأكلاف منخفضة وبشكل سريع للحصول على الأموال التي تمكنه من دفع رواتب مقاتليه، وإتمام صفقات الأسلحة. فما تمكنت داعش من تخريبه خلال عامان من الأزمة، يحتاج إلى أكثر من سبع سنوات من العمل لترميمه، أبرز المخاطر التي يجب مواجهتها هي الآثار البيئية بعيدة الأمد على التربة والمياه، أحمد يؤكد أن أكلاف مواجهة التلوث ستكون مرتفعة، في وقت تؤكد المصري أن إعادة تأهيل الأراضي الزراعية يحتاج إلى جهود كبيرة في الاستصلاح وغسيل التربة واستخدام سلالات نباتية مقاومة ومنقية للتلوث الذي أصاب البيئة، أما الأخطار الصحية على المواطنين، فقد تجلت في ظهور كثير من الأمراض التي انقرضت أو كادت تنقرض كالكوليرا، وأمراض صدرية تنفسية كالالتهاب الرئوي والربو، وتؤكد المصري أن هذه خسارة بشرية لا تعوض. إيقاف عمليات التكرير بشكل فوري هدف يجب أن تسعى الحكومة السورية إلى تحقيقه، فوفق المصري يجب توفير كميات مضاعفة من الأدوية العلاجية واستعادة الكوادر الطبية التي غادرت المنطقة، وتجهيز مشافٍ في كل المدن والقرى والبلدات، وتوفير كميات كبيرة من المواد الغذائية ذات القيمة الغذائية المرتفعة لتقوية مناعة الأجسام.

 

السابق
جريح صدما على اتوستراد خلدة
التالي
سلاح الإغتيالات جاهز