المكتبة الإمبريالية

كلما همَمْتُ بتنزيل كتابٍ من كتب التراث الإسلامي عن الشبكة: سواءٌ أكان الكتاب أدباً أم تاريخاً، علومَ قرآنٍ أم علومَ حديث، فقهاً وأصولاً أم كلاماً وفلسفة، إلخ، إلخ، تبيّن لي أن الموقع الذي أهتدي إلى التنزيل عنه قد أخذ الكتابَ بدوره عن الموقع الأمريكي المعروف بـ»إنترنت أركايف» أو بـ us.archive.org .
يعلن هذا الموقع طموحاً أقصاه التوصّل إلى خزن نسخة عن الإنترنت بقضّها وقضيضها… وعلى هذا الموقع الذي تبيح هيمنته العالمية نعْتَه بالإمبريالي، نقع (بين ما نقع عليه، وهو لا يُحْصَر!) على كتب التراث الإسلامي بعشرات الألوف. ومنه يتزوّد السَلَفيون والخَلَفيون، الأُصوليون والفُصوليون، أهلُ الظاهر وأهلُ الباطن، أشياعُ السُنّة وأسنانُ الشيعة، الخوارجُ والدَوارجُ، المعتزلةُ والأَشاعرة، أهلُ النقل وأهلُ العقل، حُماةُ التنزيل ودعاةُ التأويل، المتصوّفة والمتخوّفة، إلخ، إلخ.
فيظهر لي أن الذي يُغْلَق في وجهه هذا الموقع (وهو لا يُغْلَق في وجه أحد) ترتدُّ فرصُه في نشر كتبه وتعميم دعوته إلى ما يشبه العصرَ الحجري.
ذاك جانبٌ لا يُنْتَبَه إليه كثيراً من جوانب اعتماد العداء للإمبريالية على أسلحةٍ تقدّمها الإمبريالية بطيبِ خاطر: منها الأسلحة النارية طبعاً، من الطلقة إلى الصاروخ الثقيل، ومنها الهاتف الخلوي والتلفزيون الفضائي والبريد الإلكتروني… ومنها المواقع على الشبكة وبعض هذه الأخيرة ما يحمل كنوزَ المكتبات إلى الحواسيب الشخصية ناهيك بالألواح والهواتف.
ووراءَ كنوز المكتبات يقبع «مستشرقون» استقدموا المطبوعات بعد أن كان أسلافهم قد اهتدوا – وهذا هو الأهمّ – إلى كثير من أهمّ المخطوطات. فحقّق المتقدّمون وقدّموا وذيّلوا وقابلوا النُسَخ ونَقَدوا النصوصَ ونَشروا المؤلفات. وحين حلّ العهد الرقمي راح الفنيون ينقلون بإشرافٍ من بعض المتأخّرين هذه الكنوزَ ويضعونها بين أيدي أصحابها من أصدقاء وأعداء.
هذا ولا بدّ من التنويه بأن من يفعل معظمَ هذه الأشياء ليس الحكومات وإنما هي مؤسساتٌ مستقلةٌ عنها أو هي تابعةٌ لها ولكن العاملين فيها يحظون بقدر من الاعتبار لحرّية البحث. فلا يمنع مانعٌ أن يكون الواحد منهم معادياً جدّاً لسياسة الحكومة ولا أن يعبّر عن هذا العداء في نطاق مؤسّسته البحثية. ولا ينقض هذا الوضعَ المبدئي وجودُ آخرين في الوسط نفسه يعتمدون مواقفَ أخرى. ولا يُبْطِله أيضاً تعرّضُ هذا أو ذاك من العاملين لتضييقٍ أو حصار.
لا بدعَ أن تبقى الأبواب مفتوحة، على الرغم من هذا كلّه، للتنويه بأن اليسوعي البلجيكي هنري لامنس كان مجنّداً نفسه لخدمة الجنرال غورو وجيشه أو بأن الفرنسي لويس ماسينيون كان ضابطاً سياسياً مكلفاً توزيع الرشاوى على المطلوب تأييدهم للانتداب الفرنسي أو بأن البريطاني المتأمرك برنارد لويس نصيرٌ متحمّسٌ للصهيونية. ولا بأس أبداً في تتبع آثارٍ خَلَّفتها هذه الانتماءات أو الميول في مؤلفات هؤلاء. ولكننا نخسر كثيراً إذا أشحنا عمّا يسعنا تعلّـمه من لامنس بصدد العصر الإسلامي الأوّل ومن ماسينيون بصدد الحلاج ومن لويس بصدد نشأة تركيا الحديثة أو بصدد نظام الرقّ في الإسلام.
وفي كلّ حال ليس المستشرقون موضوع حديثنا هنا إلا من زاوية محددة. نذكرهم أولاً بمقدار ما ضلعوا في جهود آلت إلى نشر ما نعرفه من كتب التراث الإسلامي-العربي وذلك، في أكثر الحالات، في طبعاتٍ نقدية محققة. ونذكرهم ثانياً – وخصوصاً – بمقدار ما يسهم بعض الجيل الحاضر منهم (ومعهم خبراء في المكتبات وخبراء في الإنترنت) في رقمنة هذا التراث ووضعه في أحدث صيغ النشر وأوثقها تحت أبصارنا دون قيدٍ ولا شرط.
ولا أملك، في ما يتّصل بشخصي، ألاّ أعترف للموقع الإمبريالي المشار إليه بأنه أتاح لي أن أعيد، في شهور معدودة وبلا كلفة مالية، بناء مكتبة إسلامية-عربية مرقمنة كان اقتناء نظيرتها الورقية (وهي أضأل منها حجماً وأقلّ تنوعاً) قد كلّفني نحواً من أربعين سنة من الجهود ومبالغ من المال لا يستهان بها.
وقد كان ردّ الثقافة إلى السياسة، وهو قد اشتمل عندنا على وجوهها كافـّةً بما في ذلك حواملها المادية، أي الكتب مثلاً، قد جنح بكثيرين، مع إدوارد سعيد وبعده، إلى غمط المستشرقين حقوقاً مستحقة لهم وأخذ الصالح من أعمالهم بجريرة الطالح. وقد كنت أحد قلائل من النقاد العرب استوقفهم هذا الشطط، وهو ذو وجوه عدّة، فأبديت تحفّظي عمّا ساقه سعيد في كتاب أساسي من كتبه هو «الثقافة والإمبريالية» وذلك بعيد صدور الكتاب.
على أن الضرر الأكبر جاء، لا من المضمون الفعلي لأعمال سعيد ولكتابه «الاستشراق»، على الخصوص، بل من جوّ الاستسهال الذي أنشأه مريدون له ومقتدون به لاتخاذ الاستشراق تهمة أو شتيمة لا يقذف بها المستشرقون وحدهم بلا تمييز بين واحد وواحد أو بين عمل وعمل بل تتخذ سلاحاً في المواجهات الأهلية بين مثقفينا أيضاً. فيوصف بالمستشرق كل من حاول الإفادة من بعض مناهج الغربيين في تناول البشر والمجتمعات أو من تعرّض بالنقد لمواريث إسلامية أصبحت ترزح رزوحاً خانقاً على صدور المسلمين ومجتمعاتهم.
هذا مع أن رأس ما يجب تقديره في حالة سعيد إنما هو استواؤه ناقداً لمدوّنة غربية أصيلة بلغة من لغات هذه المدوّنة وبمنهاجٍ نقدي شكّله بأدواتها مستلهماً، على الأخصّ، منحىً فرنسياً معاصراً له في النقد التاريخي. فلا أذلّته لغةُ تآليفه وموروثها ولا كان يسعه التبرؤ من دَيْن لها في عنقه مؤكّد الجسامة. وأوّل وجوه هذا الدين أن ما كسبه الرجل من ثقافة تلك اللغة أو من ثقافاتٍ رصيفةٍ لها كان عدّته في التحرّر من نظرةٍ إليه وإلى بني قومه وجدها في تلك الثقافة وفي رصيفاتها.
إدوارد سعيد مثقف فلسطيني المنبت والنشأة الأولى أبرز هو نفسه ما كان في وسَطَي نشأته الفلسطيني والمصري من لَبْسٍ لغوي – ثقافي. وهو، بعد ذلك، مهاجر تعلّم في بعضٍ من أهمّ الجامعات الأمريكية وأمضى الشطر الأهمّ من حياته المهنية مدرّساً في الجامعة الأمريكية التي أتمّ فيها دراسته. وهو قد رفع صوته وألّف باللغة الإنكليزية كتباً ناقدة لمواقف غربية من فلسطين ومن الإسلام ومن بشَر الشرق ومجتمعاتهم في إبّان انتمائه إلى تلك الجامعة الأمريكية نفسها.
أقول هذا عالماً أن هذه العجالة لا تجاوز ملامسة موضوعٍ شاسع النطاق، متداخل الوجوه. وإنما حملني على هذه الإشارات معاينتي الموارد الرقمية لكثرةٍ من الأعمال المنتمية إلى ما نطلق عليه اسم التراث العربي الإسلامي. وقد ردّتني هذه المعاينة إلى اقتناعي بأن نقد منتجات الثقافة لا يستغني – على التعميم – عن النظر في مقدار ما لها من استقلالٍ لا تقوم لها قائمة بغيره عن أهواء منتجيها أنفسهم ناهيك بمصالح دولهم. لا يستغني هذا النقد نفسه أيضاً عن النظر في حال الناقد وموقعه بما في ذلك الإقرار بجلوسه على ركبتي الثقافة التي ينتقد وباستوائه، إلى هذا الحدّ أو ذاك، عالةً عليها أو على بعض وجوهها، في الأقلّ، إذا كان ذاك الجلوس وهذا الاستواء واقعاً محقّقاً.
(القدس العربي)

السابق
جنبلاط: التحية للثوار السوريين الذين حرروا بصرى الشام وإدلب من النظام الفاشي وعملائه
التالي
القادة العرب يقرّون إنشاء قوة عسكرية مشتركة ويؤكدون استمرار “عاصفة الحزم”