حذار من لهب في أذيال الخليج

محمد علي مقلد

اليمن غير السعيد مبني على معادلات ربما كانت صالحة ومفهومة في مرحلة ما قبل الربيع العربي لكنها لم تعد قادرة على الصمود بعده. بلاد الحوثيين كانت عصية على الاستعمار. الأتراك مروا فيها مرورا عابرا، والانكليز فضلوا البقاء على السواحل الجنوبية، والجيش المصري الناصري انهزم أمام صلابة نظامها القبلي، والزيديون هم سليلو آل البيت من الطالبيين، لكنهم حنفيون في عقيدتهم. بعد أن ظلوا طويلا حلفاء لآل سعود، ها هم اليوم ضدهم في خندق واحد مع خصوم الأمس “الساسانيين”،  وعلي عبدالله صالح ثعلب اليمن الماكر الذي يمني النفس في أن يشهد موت اليمن قبل أن يموت، كان حليفا للمملكة  فصار عدوا لها ولمصر ولكل الخليج.

المشهد من الخارج ليس أقل تعقيدا. لا نعرف بدقة أين سيقف تنظيم القاعدة على مسرح العمليات السياسية والعسكرية، بعدما انهار البناء القديم كله في اليمن. فهو، بحكم تكوينه ونشوئه نهض على تربية معادية للغرب وللإلحاد وللنظام الملكي، واتخذ من تلك البلاد منطلقا لهجماته البرية والبحرية على أعدائه المقيمين في دار الكفر. فهل سيختار التحالف مع داعش والاسلام السياسي السني في مواجهة الحوثيين، أم سيكون صديقاً لهم ولأصدقائهم الفرس ضد النظام الخليجي ومصر السيسي وتركيا الأردوغانية والغرب الأطلسي؟

شيعة العراق الموالون للعقيدة متضامنون مع الحوثيين، والموالون للعروبة متحمسون للتدخل الخليجي، ومرتابون، في الوقت ذاته، من الدور القيادي السعودي في هذا التدخل. داعش العراق والشام مع السعودية وضدها، ومع إيران وضدها. بعض اليسار العربي قلبه مع الحوثيين وبعضهم سيفه عليه، والهويات اليسارية على أنواعها وبكل صنوف انشقاقاتها غريبة عن المعسكرين وضحية دائمة لهما.

لوحة قد تبدو على هذا القدر من التعقيد بسبب تعدد زوايا النظر وتشعب الصراعات القبلية والدينية والمذهبية والإتنية والحزبية وتشابك المصالح بين الدول والحكومات والقوى المحلية في هذه المنطقة الشاسعة، وتضارب المصالح الدولية وتنافسها على الذهب الأسود وتناقض مواقفها من المشروع الصهيوني ومن القضية الفلسطينية، ولأن هذا الشرق العربي والاسلامي الممتد من الجزائر حتى الهند يبدو كأنه أمام طريق للتطور مسدود.

اللوحة معقدة مما قبل الاجتياح الحوثي. ومن أجل فك طلاسمها قد يكون مفيدا النظر إلى بداياتها مع الربيع المصري والتباسات الموقف الدولي والعربي من دور الجماعة الاسلامية وحكم الرئيس مرسي، ثم مع بداية الربيع السوري وتنازع المواقف الخليجية وتناقضها وتردد المجتمع الدولي، بسبب ذلك، وتلكؤه عن مناصرة أهل الانتفاضة.

أحداث اليمن لم تكن، منذ البداية، إلا جزءا من سياق ثورات الربيع العربي التي اندلعت بأهداف واضحة يلخصها الشعار المشترك التونسي المصري الليبي السوري اليمني ” الشعب يريد إسقاط النظام”. تونس أعفت بلدان الأمة العربية من إلحاح التضامن معها حين استعجلت حسم المسألة بقواها الذاتية، والنظام الليبي أعفى الأمة من الارتباك لأن القذافي وحدها على كرهه  وعلى التخلص من نظامه من غير تحفظ.

إسقاط النظام يعني أمراً واحداً، وهو التخلص من أشكال الاستبداد المتنوعة، بدءا بذاك المقنّع “بالثورات التقدمية” أو “الانقلابات القومية” أو الجمهوريات الوراثية. إنه ، بعبارة أخرى، دعوة إلى استكمال عملية الدخول في حضارة العصر الرأسمالية من بابها السياسي الذي أوصدته الأنظمة منذ تأسيس الكيانات العربية بعد الحرب العالمية الأولى، وفتحت بديلا عنه أبواباً لا تفضي الى غير الاستبداد والطغيان وتعطيل الدساتير وتعميم الأحكام العرفية.

أوروبا الغربية كانت سباقة إلى إنجاز هذه المهمة، ثم توالت بعدها دول أخرى ومناطق ، في أوروبا الشرقية وإفريقيا وأميركا اللاتينية، على الدخول في جنة الأنظمة الديمقراطية. ضمن هذه اللوحة بدت أنظمة “إلى الأبد”، الممتدة أربعين عاما في ليبيا وثلاثين في تونس ومصر وأكثر من خمسين في سوريا وعقوداً في اليمن، لطخة على جبين هذه المنطقة ذات الأزمات المتراكمة والمتفاقمة.

دول وقوى كثيرة أربكها الربيع العربي وترددت في التضامن مع ثوراته، متخوفة من الترددات التي قد تصيبها منه، فأشاحت بنظرها عن التفسير الحقيقي لعوامل اندلاعه، وراحت تبحث عن دوافعه في تعقيدات القضية الفلسطينية والتسويات المزعومة حولها ، وفي الصراعات الاقليمية ، خصوصا مع إيران، وفي الصراع مع الامبريالية والاستعمار والصهيونية، أو في قضايا الجوع والتفاوت الطبقي، وهذه كلها موجودة من دون شك، لكنها لا تشكل عاملاً جوهرياً في انفجار أحداثه، رغم أن شرارة الحريق بدأت بقضية ذات طابع اجتماعي تمثلت بحادثة بوعزيزي في تونس.

لهب الربيع كاد يشعل أذيال الخليج أكثر من مرة وفي أكثر من مكان، لكنهم نجحوا، ولو مؤقتا، في إطفاء نار البحرين، وسعوا إلى إبعاد حرائق داعش عن حدود الجزيرة، وتعاونوا على محاصرة الأزمتين السورية والعراقية وتمديد آجالهما. غير أن التوسع الحوثي صوب باب المندب بدا أكبر من طاقة الخليج والأمة العربية والاعتدال السني على الاحتمال، لأنه يستحضر صورة الغزو الفارسي الذي وصل ذات مرة إلى شواطئ المتوسط وتجاوز البحر الأحمر وبلغ أراضي السودان.

يخطئ المتقاتلون اليوم على أرض اليمن إن هم اعتقدوا أن الدوافع لاندلاع حروب اليوم هي ذاتها دوافع حروب الأمس، وأن مضامينه هي ذاتها بخصوماتها وصداقاتها، أو توهموا أن الربيع العربي، رغم كل مآسيه ودواعشه، لا يستحق أن يسمى ربيعاً، أو رغبوا في أن يبقوه محصورا ليتجنبوا حرائقه، أو حاولوا أن يبعدوا “الكأس المرة”، كأس الديمقراطية والدساتير الحديثة عن أنظمة السلالات والجمهوريات الوراثية.

ربما بات يتوجب على أنظمة الخليج، في غمرة مواجهة المشروع الفارسي، أن تبتكر شكلا لربيعها المحتوم، تتفادى فيه عنف الأحزاب الشمولية ووحشية أحزاب الاسلام السياسي، لأن الحرائق، إذا ما اندلعت في أراضيها، لن تكتفي بتدمير اليابسة بل ستلغي احتمالات التنفس من فضاء الأمة العربية.
(المدن)

السابق
الاحرار:انخراط حزب الله في الحروب الإقليمية دليل على عدم اعتبار الانتخابات الرئاسية
التالي
الأزمة في اليمن: حسابات السعودية وتحالفها العشري