أحراج الصنوبر في لبنان: تدني الانتاج إلى مستويات غير معهودة

لم يرقَ الاهتمامُ بأحراج الصنوبر في لبنان تاريخياً إلى الاستثمار في البيئة والجمال، ولما تزل نظرتنا إلى هذه الثروة الطبيعية مقتصرة على تحقيق مكاسب آنية وسريعة، أي مجرد دورة إنتاج دون إدارة سليمة تؤمن الاستدامة للغابات المتبقية، لا بل أبعد من ذلك لم نتوانَ عن اجتثاث آلاف الأشجار لصالح المرامل وبناء مجمعات سكنية ما تزال آثارها ماثلة كالندب تشوه لوحة خضراء، فضلاً عن الحرائق وجلها مفتعل لصالح تجار الحطب، إضافة إلى ارتكابات لا تعد ولا تحصى كالقطع الجائر للأشجار تحت ستار رخصة بناء أو “تجليل” وإعادة تأهيل ليتبين لاحقا أن ثمة مرامل تمعنُ في تشويه وتخريب الغابات، وإلى أن تتحرك السلطات المحلية – المتواطئة في مكان ما – تحت ضغط المجتمع الأهلي، يكون العابثون والمرتكبون قد جنوا الملايين، ولا سلطة تلاحقهم، خصوصا إذا علمنا أن المرامل “مزراب ذهب“، وبالمال تُشترى الذمم وتنهار القيم الاخلاقية وتنتفي معايير الثقافة والوعي، باستثناء قلة قليلة رفضت أن تساوم وتستغل نفوذها لجني الثروات، ومن باب الانصاف لا يمكن إلا وأن نستذكر رئيس بلدية الشبانية في المتن الأعلى الراحل غانم رعد، الذي تصدى لمحفار رمل أنشىء تحت ستار رخصة بناء وهمية، وفضح وهدد من حاولوا أن يرشوه.

أما أقصى ما توصلت إليه السلطات المعنية، فهو منع المزارع من قطع شجرة يبست من مرض، وإزالتها ليمنع انتقاله إلى أشجار سليمة، خصوصا وأن “مرض يباس الأشجار” ينتشر بسرعة ليطاول أشجارا سليمة، علما أن أحراج الصنوبر في أقضية بعبدا، المتن، عاليه، جزين والشوف هي أكبر من دورة انتاج ومال، فأهميتها المناخية والبيئية تفوق بكثير مردودها المادي المباشر، ومن هنا فهي تعرف بأنها “ثروة جمال ومال“، تؤمن انتاجاً زراعياً من جهة، وتشكل عامل جذب للسياح والمصطافين وللاستثمارات السياحية البيئية من جهة ثانية، فضلاً عن هوائها الذي يبقى مقصد الباحثين عن بيئة صحية بعيدا من ملوثات المدينة.

مخطط توجيهي

لقد أنجز التنظيم المدني مخططا توجيهيا قبل نحو عشر سنوات، وخلص إلى أن عدد الوحدات في المتن الأعلى يفوق بمرات عدة الحاجة إلى بناء وحدات سكنية جديدة، وعمد إلى تقليص نسبة الاستثمار وفرض معايير مشددة على أي بناء جديد، كأن لا يتعدى البناء ارتفاع شجرة الصنوبر، إلا أن هذا المخطط من حيث نسبة الاستثمار ظلم المواطن الذي لا يملك الا قطعة أرض صغيرة وحرمه إمكانية البناء، علما أن التنظيم المدني استند إلى حجم الوحدات السكنية في المجمعات الكبيرة العائدة للبنانيين وخليجيين.

وبالرغم من ذلك قامت مجمعات سكنية جديدة، ولم تتمكن الجمعيات الاهلية من التصدي لها، ذلك أن القوانين الجديدة أعطت صلاحيات لكبار المسؤولين في الدولة (رئاسة الجمهورية) لجهة تشريع أعمال البناء. إلا أن المتن الأعلى تمكن من التصدي لـ “مشروع أبراج لبنان” في التسعينات من القرن الماضي، وكان يلحظ بناء أربعمئة برج وفيلا ومجمعات سكنية في “وادي لامرتين“، ويقول رئيس “جمعية طبيعة بلا حدود لـ “greenarea” الدكتور محمود الاحمدية أن “المجتمع المدني أكد أنه قادر على المواجهة“، ولفت إلى أن “هذا المشروع ساهم في توحيد جهودنا واطلاق (هيئة تنسيق العمل البيئي في المتن الأعلى)، وتمكنا من وقف هذا المشروع الذي كان سيدمر أكبر غابات الصنوبر في لبنان الواقعة على جانبي (وادي لامرتين)”، لكنه استدرك قائلا “اننا لم نتمكن من ايقاف بناء مجمعات سكنية ضخمة بسبب أنها حظيت في مراحل معينة بقرار رئاسي، إلا أنها لم تكن مشاريع مشوهة وفاضحة على غرار المجمعات السكنية التي بنيت إبان الحرب الماضية، وهي عبارة عن كتل خرسانية ضخمة ستظل ماثلة بكل ما تحمل من تشويه“. وأشار الاحمدية إلى أن “هيئة تنسيق العمل البيئي توجت إنجازاتها بدراسة أعدها الخبير البيئي الراحل الدكتور طليع المصري ومفادها أن (حماية الغابة وتنميتها رهن بكيفية استثمارها وبأن زيادة الانتفاع منها يرفع مستوى الاهتمام بها فيؤمن حمايتها التلقائية)”.

وقال: “قبل نحو ثلاثة أشهر تداعينا كجمعيات بيئية وهيئات نقابية زراعية لاجتماع، لاعادة إحياء هذه التجربة النضالية، وأطلقنا (هيئة تنسيق العمل البيئي في جبل لبنان الجنوبي) بهدف تأطير العمل المشترك في مواجهة تحديات بيئية وتكريس مفاهيم التنمية المستدامة على مختلف قطاعات الحياة، والتصدي للتعديات على البيئة بشكل جامع ومنظم، وتشكيل رافعة ضغط على القطاع الرسمي ومواكبة التطوّرات البيئية العالميّة والتركيز على التعاون مع البلديات والوزارات التي لها علاقة بالشأن البيئي“. وأكد الاحمدية أن “الممارسات الفاضحة كإقدام البعض على حرق حرج صنوبر في المتن الشمالي لأن صاحبه رفض بيعه لصالح حيتان المال من أجل بناء مجمع سكني، وغير ذلك من التعديات الفاضحة فرض علينا تحديات كبيرة كمجتمع أهلي“.

التحديات الراهنة

أما الآن، فيعيش العاملون في قطاع الصنوبر في لبنان حالة من الترقب والانتظار، في انتظار نتائج الدراسات التي تقوم بها منظمة الأغذية والزراعة في الأمم المتحدة (الفاو)، للوقوف على أسباب تدني الانتاج إلى مستويات غير معهودة من قبل، وتوقعات بانعدام المواسم اذا ما استمر الحال على ما هو عليه، ذلك أنه يمكن للمزارعين أن يرصدوا ثلاثة مواسم، فشجرة الصنوبر تحمل إلى ثمارها الناضجة (الأكواز) بواكير موسمين آخرين، فتكون ثمة ثمار أصغر بحجم ثمرة المشمش للعام التالي، وأخرى صغيرة بحجم “حبة حمص” للعام الذي يليه، ومن هنا مقولة أبناء المتن بأن “الصنوبر بشوف خيُّو لتلات سنين“. حتى الآن ليس ثمة ما هو واضح حيال ظاهرة تراجع الانتاج، وما إذا كانت ناجمة عن تبدلات في المناخ ما بين طقس شديد الحرارة أو شديد البرودة، أو عن أمراض غير معروفة إلى الآن، وما هو مؤكد في هذا المجال – حسب الخبيرة في مجال الانتاج الزراعي الدكتورة ديانا أبي سعيد أن “ما يواجه الصنوبر لا يقتصر على لبنان فحسب، وإنما يطاول دول حوض البحر الابيض المتوسط“، ولفتت إلى أنه من “السابق لأوانه تحديد الأسباب التي أثرت على المواسم للعام الثاني على التوالي والمتوقع استمرارها“، وأشارت إلى أنه “من المرجح أن تكون اجتمعت عوامل عدة ساهمت في إضعاف قدرة الشجر على الاثمار“. أما المشكلة الأبرز فتبقى متمثلة بالنتائج الاقتصادية والاجتماعية على العاملين في قطاع الصنوبر، وهم يمثلون – تبعا لاحصائيات بأكثر من خمسين ألف عائلة موزعة بين المتنين (الاعلى والشمالي)، عاليه، الشوف، جزين ومناطق عدة من لبنان. وعلمت “greenarea” أن وزير الزراعة أكرم شهيب طلب من الجهات المختصة إعداد دراسات حيال ما يواجه هذا القطاع، ووعد المزارعين بوضع امكانيات الوزارة في تصرفهم بعد تحديد أسباب المرض لمكافحته أو اعتماد طرق معينة لحماية هذه الثروة“.

(greenarea)

 

السابق
بكركي ترفع الصوت مجدداً: انتخاب الرئيس وانقاذ الدولة
التالي
موظفو مستشفى صيدا الحكومي أقفلوا قسم الطوارىء احتجاجا